|
الإثنين، الموافق ١١ نوفمبر ٢٠٢٤ ميلاديا

يونس الهديدي : التفاهة بوصفها مُشتركًا عالميًّا

العرب نيوز ( رؤوس – أفلام ) الكاتب الشاعر المغربي أ- يونس الهديدي – غالبًا ما نتساءل عن العلاقة القائمة بين التفاهة والمشترك، فمن جهة يبدو المشترك بكل حمولته الثقافية أرضية تنهض عليها التفاهة بشتى أشكالها، ومن جهة أخرى تبدو التفاهة عملية تقويضية تهدم بنية المشترك بهدف إفراغه من خصائصه الثقافية، ومن ثمة إحلال بنية جديدة يحكمها منطق التاريخ وتطوره وقصديته. فإلى أي حد يمكن أن تكون هذه العلاقة الملتبسة بين التفاهة والمشترك مؤطرة لعالم توجهه القيم الرأسمالية الاستهلاكية وتقوده حالة شائعة من النمطية؟

يصعب الحديث عن مشترك دونما استحضار للعولمة بوصفها ثورة من الاتصالات فحسب، ثورة تكاد تنمحي معها الاختلافات الجوهرية بين الأفراد إزاء بعضهم البعض، وبين الشعوب في تعدد مشاربها الثقافية. فأي مشترك هذا الذي تمنحنا إيّاه ثورة العالم الجديد؟ يبدو أن تحديد المشترك يحتاج إلى إعادة نظر في ظل المتغيرات الراهنة، فنهج الدول سياسة إحياء التراث فلكوريًّا على سبيل المثال يؤشر على أن هناك مشترك جديد وعام يمارس المحو على مشترك قديم وخاص، و استشعار خطورة التغير من خلال ردود الفعل التي يقوم بها الأفراد تجاه الطبّ معرفةً، و التسامح دينيًّا، والبحث عن الجذور عرقيًّا (…) – كلها علامات دالة على أن هناك مشترك عالمي تصوغه العولمة الجديدة بحذر وإتقان. ولا تعوزنا الأمثلة في هذا الصدد فهي كثيرة ومتعددة ففي ثقافة الطعام انتشرت مأكولات عالمية (البيتزا، السوشي، والبرغر ) و أصبحت شائعة في مختلف الدول. وحلّت سحابة من الصور غير مؤهلة للنوستالجيا والحنين مكان الذكريات المعتقة. وصار المؤثر في شبكات التواصل الاجتماعي يترك أثرا في السلوك الإنساني رغم أنف أرسطو وماركس.
يبدو خطاب المشترك الجديد خارج تاريخ الفكر الإنساني، بل ومعطِّلا لكل محاولة للتفكير، فالقصّ أو السرد هو الأسلوب الشائع فيه، والميثوس هو الذي يحدد الحقيقة من الضلال.
إن قيم الخطاب في مجملها منطقيةً كانت أـو جماليةً أو أخلاقيةً تعرف سيولة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، ذلك لأن الأخلاق حُدِّدت لها عدسات الكاميرا كفضاء تمارس فيه، والفن من زاويته يخضع لمعايير التسويق والميديا فالاشتغال والنجاعة في هذا الباب ترسم معهما معايير الجمال والقبح.
إن هذا المشترك الذي اختارت الرأسمالية عناصره بدقة وعناية، يحتل موقعا مهما في صناعة التفاهة على الأقل “من باب ما يطلبه المشاهدون” – العبارة إحالة على وعي اقتصادي وسياسي لدى المدبرين للتفاهة من جهة أولى، ولدى المستثمرين فيها من جهة ثانية .- وعلى الأقل تتعدى إلى اعتبار المشترك ذاته المحرك الأساس للتفاهة، فالمشترك “يظل ضحلًا مهما علا” على حد تعبير المفكر والشاعر أدونيس. ذاك المشترك الذي يمارس غزوه على الذات في فرادتها ويعوق أية محاولة للإبداع أو لرسم فضاء تحرر جديد، فإما أن يصدر الإنسان عن ذاته فيكون بذلك خلاقًّا وإما أن يصدر عن المشترك بغض النظر عن العناصر المكونة له، فيكون بذلك تافهًا وسخيفًا وضحلًا.
على هذا النحو استطاع المشترك في تطوره أن يهدم الخصوصية في عناصرها المركزة لصالح عناصر أخرى شكل اتساعها الفضفاض ثقافيا أهم عنصر لتطوين التفاهة في اللحظة المعاصرة. هذا كله تم بحبكة رأسمالية فشلت في التوسع فعليًّا، فتوسعت في مشتركات الشعوب وفي خصوصيتها، توسع أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه يهدف إلى بناء ذات مشتركة عارية من كل الخصوصيات على اعتبار الخصوصية أهم مورد للقيم الإنسانية.

 

#العرب_نيوز ” أخبار العرب كل العرب “