ما المشترك بين عايدة ومنصور ؟
العرب نيوز ( رؤوس – أقلام ) بقلم المحامي جواد بولس – لا نستطيع التكهن اذا سيؤدي تصويت البرلمان الاسرائيلي على قانون لحل نفسه، كما جرى يوم الاربعاء الماضي، الى نجاح التصويت عليه بقراءتين اضافيتين ضروريتين كي يصبح قانونًا نافذًا وبابًا للذهاب الى عملية انتخابات جديدة؛ فهنالك احتمال بأن يكون جانتس وحزبه في خضم مناورة سياسية خبيثة تستهدف الضغط على نتنياهو وحزبه واجبارهم على تحسين مواقع كاحول-لافان الحزبية، وتعزيز مصالح قادته الشخصية، والبقاء، بعدها، في هذه الحكومة؛ أو ان يتمكن احد الحزبين من تركيب حكومة جديدة، من ضمن نواب هذه الكنيست؛ فعندها، وفي حالة نجاح احد هذين الاحتمالين، لن يضطر المواطنون الى خوض غمار معركة انتخابية والذهاب إلى صناديق الاقتراع للمرة الرابعه في غضون السنتين الأخيرتين .
وحتى نصل الى نهاية المسرحية، اقترح ان نلتفت الى بعض ما كشفته أحداثها في الاسابيع الاخيرة، خاصة في ما يتعلق باداء القائمة المشتركة، التي بدت كالسمكة العالقة في شباك صياد ماكر وماهر؛ وليس اقل، الالتفات الى أداء مؤسسات الأحزاب والحركات التي تتركب منها القائمة، وفي طليعتها الحركة الاسلامية ونجمها، النائب الدكتور منصور عباس.
من الواضح، وهذا ما قلته في الماضي، ان مواقف النائب عباس تنم عن نهج مدروس ومتكامل؛ وعلى الرغم من ان البعض قد يحسب مناوراته ظاهرة جديدة لكنها، في الواقع، ليست كذلك، فنحن ازاء فكر أيّدته في الماضي وتؤيده الآن مؤسسات الحركة الاسلامية وتعلنه امام جمهور ناخبيها وتدافع عنه امام جميع المواطنين العرب وتحاول استثماره بين المواطنين اليهود وفي داخل المؤسسة الحاكمة، وعلى رأسها مكتب رئيس الوزراء نتنياهو.
ولولا ان شعار القائمة المشتركة الانتخابي الابرز والاهم سياسيًا دعا جميع المواطنين الى التصويت “من اجل اسقاط نتنياهو” ومنعه من اقامة الحكومة، فسيكون من الصعب لمن ليسوا من اتباع الحركة، مساءلتها على قرارها الاخير الذي الزم نوابها بالتغيّب، ساعة التصويت، وبالامتناع عن دعم اقتراح اسقاط حكومة نتياهو، والذي حظي، رغم تغيب النواب الاسلاميين الاربعة، على اكثرية واحد وستين صوتًا .
ولأن الحركة الاسلامية نكثت بما أعلنته أمام ناخبي القائمة، فابقاؤها شريكة كاملة ، دون مساءلتها أو ضبط مسار تحركها المستقبلي، سيضر بمصداقية القائمة كوسيلة نضالية جديرة بالاحترام، وبضرورة هذه الشراكة.
وكي لا يساء فهمي، فانا مع انتقاد قرارات النائب منصور عباس ومواقف حركته لكنني ارفض التهجم عليهم وتخوينهم، فما يفعلونه سيبقى محسوبًا لهم وعليهم؛ وأدعو، بالمقابل، جميع من حاولوا المس بمصداقيتهم السياسية وتجريحهم، الى مناقشة مواقفهم المعلنة والى العمل، في نفس الوقت، على تغيير موازين القوى السياسية داخل مجتمعاتنا وتعزيز أطرهم الحزبية والحركية واكسابها القوة الكافية لتقف، بندّية متكافئة، مقابل الحركة الاسلامية او حتى الى التفوق عليها، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
وبكلام آخر فلقد كشفت تداعيات الأحداث الأخيرة مدى الثقة الذاتية التي تتصرف بها الحركة الاسلامية وقناعتها برواج خطابها البرغماتي/الذرائعي المكشوف، وذلك ليس لكونه انعكاسًا حقيقيًا لمضامين ما تسميه الحركة، بتعميم مقصود، في أدبياتها التوعوية ونشراتها السياسية الحركية ودعاياتها الشعبية، بالثوابت الوطنية وحسب، انما لتيقنها من ضعف مباني شركائها الفكرية والتنظيمية وذلك نتيجة لما تعانيه أطرهم من ضمور تنظيمي، مثل الحركة العربية للتغيير ، أو الاغتراب عن الواقع الحقيقي للمواطنين، مثل حزب التجمع، أو الهرم والتكلس التنظيميين داخل مؤسسات الحزب الشيوعي وتوأمه، الجبهة الديمقراطية للسلام، وما نعرفه من تفشّ للنزاعات الشخصية والمناكفات التي تملأ الجسدين جروحًا، وتنهكهما.
لا تنحصر علامات ازمة الاطر الحزبية والمؤسساتية القيادية الفاعلة بين المواطنين العرب على كيفية ادارة الازمات المتوالدة بين مركبات القائمة المشتركة، وما اقتضته وتقتضيه هذه التجاذبات المكتومة أو الظاهرة من مراوحة بين صدامات معلنة، كما يحصل الان في قضية التصويت على اسقاط نتنياهو، أو بلجوء بعضهم الى “نعمة الصمت” أو المسايرة الصاغرة، وذلك في مسائل خلافية، سياسية أو اجتماعية، لم ينجحوا بالتجسير عليها؛ مع اننا شهدنا ان هذا الخيار لم يكن مقبولًا على الحركة الاسلامية ولن يكون مقبولًا اذا كان الموقف المطلوب منها يندرج تحت ما يعتبرونه من الثوابت العقائدية، كما حصل في قضية التصويت على قانون منع اخضاع المثليين للعلاجات القسرية، الذي بسببه تحاسب النائبة توما، أو في معظم القضايا النسوية ، او في قضايا هامة اخرى.
لقد دُعيت النائب عايدة توما سليمان الى مدينة قلنسوة لالقاء محاضرة عن العنف ضد النساء، حيث كان من المقرر ان تحل ضيفة على المركز الجماهيري في المدينة يوم الاحد المنصرم. ومع انتشار خبر الدعوة في قلنسوة خرجت عدة فعاليات دينية بمناشدة علنية لحظر دخول النائب الشيوعية عايدة توما الى المدينة، مع تأكيد هؤلاء على ضرورة منعها من مخاطبة الأهل في المدينة وافساد عقولهم لأنها دعمت وتدعم حقوق المثليين .
لن اتطرق هنا الى مسألة الاكراه والاعتداء على حريات الغير/ المختلف، وهي من الظواهر المتنامية والمتسيّدة في معظم قرانا ومدننا العربية؛ ولن أسرد، في هذا المقام، كم من النشاطات الاجتماعية ، الفنية ، المسرحية، الرياضية، الادبية، حوربت وقمعت في قرانا ومدننا واهملتها القائمة المشتركة كنوافل هامشية؛ لكنني على قناعة بان خنوع فعاليات مجتمعنا التقدمية المختلفة ومعظم قياداته السياسية في تلك الحالات وتراجعهم امام القوى الرجعية، ادى اليوم لان تدفع النائب عايدة سليمان وغيرها فواتير تلك الهزائم .
لقد وقف في الماضي قادة الحزب الشيوعي والجبهويون مع قادة القوى الوطنية والتقدمية وقاوموا الممارسات العنصرية الصهيونية وقمع الدولة بصلابة وبجدارة، لكنهم حاضوا، في نفس الوقت، على قلاعهم من أي عبث او تنمر أو فساد أو جنوح داخليين، فحافظوا على قيم مجتمعنا الموحدة وعلى سلامة الحيزات العامة واحترموا حريات وحقوق كل الشرائح والفئات الاصيلة، حتى حفلت كل قرية ومدينة بقصص هؤلاء وبنوادرهم في تحصين الهوية الجامعة وصيانة الانتماء الوطني والانساني الحقيقي، ولكن .. بعد رحيل تلك الكوكبة العنيدة والواضحة، صارت المواقف الحزبية تفصّل على مقاسات البعض بانتهازية موجعة، وتنتقى بنخبوية مقيتة وتقر بشللية هدامة وتمارس بتزمت بغيض، حتى عشنا وشفنا اليوم كيف يصبح منع ناشطة نسوية بارزة، فلسطينية شيوعية ومناضلة ميدانية مثابرة، ممكنًا من قبل ابناء جلدتها، ومتاحًا في مدينة عربية أنجبت الاحرار والشريفات والمناضلين.
لم تتخذ القائمة المشتركة موقفًا ازاء ما واجهته النائب عايدة توما، لكننا، رغم ذلك، لمسنا في حالتها، بخلاف حالات سبقت، حراكًا لافتًا ضد محاولة قمعها، وقرأنا بيانات حازمة وشاجبة كانت قد أصدرتها مؤسسات الحزب الشيوعي والجبهة وحزب التجمع وادارات عدة جمعيات مدنية، حيث عبّر فيها جميعهم وبما لا يقبل الشك، عن معارضتهم للموقف الداعي الى منع دخول عايدة توما والتحريض عليها بسبب مواقفها وانتماءاتها المعروفة.
لم تستسلم قلنسوة، كما حصل في حالات سابقة في مواقع عديدة في البلاد، ومع ان المركز الجماهيري بقي موصدًا، كانت بعض بيوتها الدافئة مفتوحة؛ فاستقبلت الضيفة بحفاوة ومعها عشرات الناشطات والناشطين والقت محاضرتها في بيت الدكتور ثابت ابو راس، وهو الناشط والمناضل من اجل حقوق أبناء شعبه منذ اكثر من اربعين عامًا، والمعروف بمواقفه التقدمية والانسانية الشجاعة من قبل ولادة عدة حركات وتنظيمات يدعي اليوم بعض نشطائها اليافعين أنهم يريدون تعليمه وتعليم رفيقاته ورفاقه في الدرب، كيف تكون الثوابت الوطنية!
لقد كشفت الازمة داخل المشتركة عن بواطن الخلافات الاساسية داخل مجتمعنا، وليس بين جدران القائمة وحسب، وهذا في حد ذاته وجه القضية الحسن، لكنها، وهذا وجه القناع الثاني، اوقفتنا أمام مرايانا الذكية حيث ظهر في أعاليها سؤال المرحلة الصعب وهو: هل تستطيع هذه الاحزاب والحركات، ببناها الفكرية والتنظيمية القديمة الجديدة، ان تشكل الاداة الصحيحة وتعطي الرد المتوازن لمشكلة وجودنا في دولة ما زالت مؤسساتها لا تعرف الا ان تعاملنا كغرباء او اعداء او مستأجرين غير محميين؟ وهل يستطيع قادة تلك الاحزاب والحركات أن يستدلوا على الوصفة الصحيحة لوقف زحف شركائهم، النائب منصور وحركته، نحو تلك الحقول البعيدة والملغومة ؟
من الصعب التكهن حول مستقبل الحكومة الحالية وحول نتائج الانتخابات القادمة، اذا حصلت؛ ولكن، ليس من الصعب التوقع بان القائمة المشتركة ببنيتها الحالية الضعيفة، وبسبب تحديات الحركة الاسلامية لطريقة ادائها اليوم وفي المستقبل، لن تبقى خيار الناخبين التقدميين، العرب واليهود، الوحيد؛ فانا وكثيرون مثلي نطالب بمعرفة ماذا يجمع بين فكر عايدة توما المرأة المتحررة والشيوعية، ونصيرة حقوق المستضعفين والمستضعفات، والمسيحية المولد، وابنة الثقافة العالمية، وشريكة في المنصات الشعبية والمظاهرات الكفاحية، وبين ثوابت الحركة الاسلامية العقائدية المعروفة والوطنية الغامضة؟ ونطالب ان نعرف ماذا يجمعها مع من يرفض، بسبب هويتها ومواقفها ومبادئها، أن يدخلها آمنة الى بلده والى بيته ؟ وهل سيحميها زملاؤها وأحزابهم عندما تعلن حرب عليها ؟
فما لم يحمها ويحمي غيرها بيت “المشتركة” فما الداعي لمثل هذه القائمة؟