تداعيات خلافة “ميركل” على المشهد السياسي الألماني
العرب نيوز ( رؤوس – اقلام ) بقلم الكاتب والمحلل نوار الصمد – سيقترن عام 2021 باستحقاقات انتخابية مهمة على الساحة الألمانية من أجل تحديد من سيخلف أنجيلا ميركل في منصب المستشارية بعد اتخاذها قرارًا بالانسحاب من المشهد السياسي فور انتهاء ولايتها الحالية وكانت عملية الانتقال هذه التي أُريد لها أن تجري بشكل سلس، قد تعثرت، بعد استقالة رئيسة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي “أنجريت كرامب- كارنباور”، والتي كانت تحظى بدعم ميركل، من منصبها في رئاسة الحزب في فبراير 2020، وإعلانها عدم الترشح لمنصب المستشارية وذلك لعجزها عن مواجهة الضغوط والتحديات الداخلية.
ومما يزيد من تعقيد العملية هذه احتدام المنافسة بين الأجنحة الداخلية في حزب ميركل، وتصاعد قوة لاعبين جدد كحزب الخضر واليمين المتطرف مما قد يؤدي إلى تغيرات واسعة في المشهد السياسي الألماني الداخلي، وإلى قطيعة مع استمرارية السياسات التي انتهجتها ميركل طيلة السنوات الماضية.
تعثر عملية الانتقال:
يمكن إيجاز العوامل التي ساهمت في تعثر خلافة أنجيلا ميركل في هذه الأسباب المحورية:
1- استقالة “كرامب كارنباور”: حيث كان دافعها الأساسي الأزمة التي نشبت على وقع انتخاب رئيس حكومة مقاطعة تورينجن في فبراير 2020، حيث قام الفرع المحلي للمسيحي الديمقراطي في هذه الولاية بمخالفة التوجهات المركزية الصادرة عن كرامب كارنباور، من خلال التعاون مع حزب البديل لأجل ألمانيا لانتخاب مرشح الحزب الليبرالي كيميريش، وذلك بهدف إعاقة تحالف اليسار بقيادة مرشح حزب داي لينكه بودو راميلو من انتزاع إدارة الولاية.
وحتى تاريخ حصول سابقة تورينجن لم يتم انتخاب أي رئيس حكومة ولاية في ألمانيا بدعم من حزب AFD، وذلك تطبيقًا لاتفاق ضمني بين بقية الأحزاب الألمانية من أجل منع وصول أقصى اليمين إلى مجالس الحكم المحلي في الولايات الألمانية. وأثارت طريقة انتخاب كيميريش المخاوف من بداية انهيار “جدار الحماية” الذي يعزل متطرفي أقصى اليمين مما أثار موجة استنكار عارمة في ألمانيا وصلت إلى حدود تهديد الحزب الديمقراطي الاشتراكي، الشريك في التحالف الحكومي مع ميركل، بفرط هذا التحالف، وبالتالي إسقاط الحكومة، مما استدعى تدخل ميركل نفسها التي أدانت ما حدث في تورينجن، ودعت إلى تصحيح الخطأ، وإلى إعادة عملية الانتخاب بعد دفع كيمريتش إلى الاستقالة.
2- الفصل بين منصب المستشار ورئيس الحزب: يبدو أن ميركل وقعت في سوء تقدير فادح حين اعتبرت أن فصل منصب المستشارية عن منصب رئيس الحزب الحاكم مع نهاية 2018 سيعزز من قوة رئيس الحزب الجديد في خوض الانتخابات الجديدة في خريف 2021 بعد أن يكون قد عزز سيطرته الداخلية، إلا أنه على أرض الواقع كانت النتيجة مغايرة، حيث جاء أداء كرامب كارنباور ضعيفًا في ظل تمركز السلطة في يد ميركل. وفي هذا السياق، بدا لافتًا ما ذكرته صحيفة “بيلد” في فبراير 2020 من أنه “مع وجود أنجيلا ميركل في المستشارية فإن أي بداية جديدة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي غير ممكنة”.
3- صراع الأجنحة الداخلية: حيث تتوزع موازين القوى داخل الحزب المسيحي الديمقراطي بين توجهين أساسيين: التوجه الأول يرى أن تكريس هوية محافظة أكثر تشددًا كفيل بوضع حد لتراجع الحزب، ويعبر عن هذا التوجه المرشح “فريدريش ميرز” الذي يتعهد باستمالة نصف ناخبي “البديل من أجل ألمانيا” (المقدرة بـ13%)، وأما التوجه الثاني فيعبر عنه “أرمين لاشيت” الذي يفضل المحافظة على هوية الحزب الوسطية، وهو كان داعمًا لميركل طوال مدة حكمها، وهو غير مقتنع بما يروج له ميرز من تبني خطاب مشابه لخطاب اليمين المتطرف (ولكن أقل حدة منه)، بل على العكس يرى أن ناخبي اليمين المتطرف سيبقون حيث هم، بينما سيخسر الحزب ناخبيه الوسطيين. وتُظهر استطلاعات للرأي أجرتها مؤسسة فورسا forsa في أبريل 2020 في أوساط مؤيدي حزب CDU تقارب قوة الجناحين مع تفوق طفيف للاشيت؛ إلا أن الاستطلاعات التي أجريت مؤخرًا تظهر تقدمًا واسعًا لصالح ميرز، خصوصًا بعد إخفاق لاشيت في إدارة أزمة الكورونا في الولاية التي يحكمها (ولاية الراين الشمالي ووستفاليا) والزج باسم ابنه من ضمن المستفيدين في صفقة لتصنيع الكمامات الطبية.
4- غياب استراتيجية موحدة: تعتبر أوساط داخلية في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي أنه كان يجب التصويت منذ البداية في انتخابات ولاية تورينجن لصالح مرشح أقصى اليسار (حزب دي لينكه وريث الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية)، ولكن قيادة الحزب كانت تخشى من أن الموافقة على مثل هذا التصويت سيدفع أعضاء الحزب المحافظين في ولايات أخرى إلى التعاون مع حزب أقصى اليمين، تحت حجة أن قاعدة عدم التعامل مع المتطرفين “لا هذا ولا ذاك” التي ينتهجها الحزب قد خرقت.
وشكّلت عملية إعادة انتخاب رئيس ولاية تورينغن من أقصى اليسار والتي حصلت في 4 مارس 2020 مناسبة لتصاعد الرؤى الإشكالية حول هذه المسألة، وذلك على الرغم من امتناع ممثلي الحزب المسيحي الديمقراطي عن التصويت، وقد ترافق ذلك مع تفاهم ضمني بين تحالف اليسار والمسيحي الديمقراطي على إدارة بعض الملفات المحلية، ويضع البعض هذا الدعم الضمني ضمن دائرة كسر قاعدة “لا هذا ولا ذاك”، ويبدو أن حسم هذه المسألة سيترك لتقدير رئيس الحزب الجديد المقرر انتخابه في يناير 2021 وفقًا لدراسة عوامل عدة مثل تصاعد شعبية المتطرفين (من اليمين واليسار) في ولايات شرق ألمانيا، واستحالة بناء أكثريات في بعض الولايات من دون مشاركة أحد الطرفين.
تداعيات انسحاب ميركل:
قد تواجه ألمانيا عدة تحديات بعد عملية التغيير في رأس السلطة يمكن الإشارة إلى أبرزها فيما يلي:
1- صعوبة تشكيل ائتلاف حكومي جديد: تؤكد معظم استطلاعات الرأي أنه من المتوقع أن يحل الحزب المسيحي الديمقراطي في المقدمة وبفارق بسيط عن حزب الخضر. وبحسب استطلاع نشرته Statista في أبريل 2020، حصل حزب المسيحي الديمقراطي على نتيجة تتراوح بين 27ـ29%، وحزب الخضر 20ـ24%، والحزب الديمقراطي الاشتراكي 13ـ14%، والبديل من أجل ألمانيا 10ـ15%، وداي لينكه 6ـ9%، والحزب الديمقراطي الحر أو الليبرالي 6ـ9%، مما يعني أن التحالف الحالي بين المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي لا يمكنه الاستمرار في الحكم إلا ضمن حكومة أقلية، وهو أمر مستبعد جدًّا. وعلى الأغلب سيتم تكوين تحالف حكومي جديد هناك بين المسيحي الديمقراطي وحزب الخضر، وربما قد يستلزم الأمر ضم الحزب الليبرالي كشريك أصغر (ضمن ما اصطلح على تسميته بائتلاف جامايكا نسبة إلى لون أعلام الأحزاب الثلاثة: اللون الأسود للتحالف المسيحي، واللون الأخضر لحزب الخضر، والأصفر للحزب الليبرالي). ويحتاج التحالف مع حزب الخضر إلى الكثير من تقارب وجهات النظر، لأن الطرفين على خلافات عميقة بشأن مواضيع حيوية كالصناعات الثقيلة، وحجم الإنفاق العام، والسياسة الدفاعية لألمانيا.
2- تعقد عملية حكم الولايات: أدى تصاعد شعبية الخضر داخل المدن الكبرى والمتطرفين (من اليمين واليسار) في شرق ألمانيا إلى تغير في طبيعة النظام الحزبي في ألمانيا، حيث تحول من نظام قائم على حزبين كبيرين مسيطرين (Volksparteien) هما الديمقراطي الاشتراكي والمسيحي الديمقراطي يحصلان على أكثر من 90% من أصوات الناخبين إلى نظام قائم على تعددية حزبية من 6 أحزاب تظهر الإحصاءات الحالية حصول الحزبين الأولين فيه على نسبة تقارب الـ45% من الأصوات، وتنعكس آثار هذا التحول على تعقيد عملية تشكيل حكومات الولايات الألمانية. وفي هذا السياق تظهر دراسة نشرتها مجلة الإيكونوميست في فبراير 2020 أنه قبل ثلاثين عامًا كانت 7 ولايات من أصل 16 في ألمانيا تحكم من خلال حزب واحد، فيما كانت الولايات الباقية تُحكم من تحالف حزبين، أما اليوم فهناك 8 ولايات يتم إدارتها من تحالف من ثلاثة أحزاب مختلفة، مع وجود 13 نوعًا من الائتلافات المختلفة بين الأحزاب الحالية. وعلى الرغم من أن تنوع التحالفات داخل حكم الولايات قد يشكل مختبرًا للتجارب التحالفية قبل تطبيقها على المستوى الفيدرالي، إلا أن نقطة الضعف في هذه التجارب تتجسد في أن الائتلافات المتباينة أيديولوجيًّا كثيرًا ما تؤثر على فعالية الحكم.
3- حسم الملفين التركي والإيراني: على الرغم من التردد الذي طبع السياسة الخارجية الألمانية تجاه بعض ملفات الشرق الأوسط، كعدم الرغبة في التصاعد مع أنقرة رغم المضايقات للإرادة الأوروبية في قبرص واليونان؛ إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأت ملامح تغيير في السياسات الألمانية، والجنوح نحو تبني فكرة العقوبات تجاه أنقرة، كما تنتظر ألمانيا عودة التباحث الأمريكي حول الملف النووي الإيراني لتضمين رؤيتها مع دراسة خيارات بتوسيع الالتزامات الإيرانية لتشمل برامج الصواريخ الباليستية والتمدد الإقليمي.
4- الإدارة الأمريكية الجديدة: ستحاول القيادة الألمانية الجديدة استغلال التغيير الحادث في الإدارة الأمريكية مع وصول بايدن من أجل الدفع باتجاه مزيد من التفهم الأمريكي لوجهات النظر الألمانية في العديد من النقاط الخلافية، كحاجة ألمانيا إلى موارد الطاقة التي يؤمنها خط “نورد ستريم 2″، وإبطاء زيادة الإنفاق الدفاعي الألماني، ومعارضة برلين لقرار ترامب بنقل الجنود الأمريكيين المتمركزين في ألمانيا. وعلى الرغم من الإدراك المسبق لثبات الموقف الأمريكي في بعض النقاط، إلا أنه قد يكون ممكنًا إخراجها من قالب الخلاف الشخصي الذي تميزت به في حقبة (ترامب – ميركل).
5- منتهكي “دولة القانون”: يقصد بها الدول الأوروبية التي لا تلتزم بمعايير الاتحاد حول “دولة القانون”، كالمجر وبولندا، والتي تعد الموافقة عليها إلزامية من أجل الاستفادة من خطة الإنعاش الأوروبية لمواجهة الآثار الاقتصادية السلبية الناتجة عن جائحة كورونا التي تقودها ألمانيا. وقد يؤدي عدم التزام هذه الدول بتعهداتها إلى استياء داخلي ألماني، خصوصًا أن الاقتصاد الألماني يمر للمرة الأولى منذ خمس سنوات بعجز مالي، وبالتالي فإن القيادة الألمانية الجديدة أمام تحدي دفع هذه الأطراف إلى الوفاء بالتزاماتها وعبر الأساليب الدبلوماسية من دون العودة إلى الظهور بمظهر الدولة المسيطرة أوروبيًّا، خصوصًا في ظل خروج تصريحات كتغريدة وزيرة العدل المجرية “جوديت فارغا” التي شبهت فيها المطالب الألمانية “بالأوامر الأيديولوجية”.
ختاماً يُخشى من أن عدم تنظيم عملية اختيار خليفة لميركل بالشكل المطلوب على الصعيد الداخلي قد يؤدى إلى انقسام الحزب المسيحي الديمقراطي، مما قد يؤدي إلى انهيار الوسط التقليدي السابق في ألمانيا (انهيار يمين الوسط بعد تقهقر يسار الوسط المتمثل بالحزب الديمقراطي الاشتراكي)، والتخوف من أن تتجه ألمانيا بعد هذا الانهيار إذا لم يتم تداركه إما إلى نظام حزبي تعددي مفكك، وإما إلى نظام (حزبين كبيرين) جديد مؤلف من ركنين أساسيين، هما: حزب الخضر، وحزب البديل لأجل ألمانيا، على المدى البعيد. أما على الصعيد الدولي، فسيتحتم على ألمانيا في فترة ما بعد ميركل مواجهة معضلة قيادة المشروع الأوروبي من دون التعويل الكبير على الحليف الأمريكي المرشح دوره للتناقص، خصوصًا على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
المصدر: المستقبل للأبحاث