|
الجمعة، الموافق ٠٦ ديسمبر ٢٠٢٤ ميلاديا

العرب نيوز ( روؤس – أقلام ) بقلم د. ميسون الدخيل – كم مرة تعرضنا للأذى وكم مرة سامحنا؟ ولكن عندما يصل الأمر إلى مرحلة مؤلمة صادمة؛ عندها تصبح المسامحة حقًا أمرًا شاقًا، وقد تتحول المشاعر إلى الغضب والرغبة في الانتقام في بعض الأحيان… مشاعر سلبية تنمو بداخلنا وقد تلازمنا لبقية حياتنا ما لم نجد طريقة للتخلص منها! أخبرونا بأن مشاعر الغضب والانتقام سامة ومدمرة للفرد لأنها تأكله كما تأكل النيران الحطب، ولصعوبة التخلص منها كان الأجر من الله كبيرًا حيث قال في كتابه الحكيم: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

نحن كمجتمع مؤمن بقضاء الله وقدره ندرك تمامًا أن كل شيء يحدث لسبب ما، وهذا بدوره يعمل كآلية طمأنة للتعامل مع الصدمات التي نتعرض لها خلال مسيرة الحياة، وكما تقع على عاتقنا مسؤولية النجاح، كذلك أيضًا مسؤولية خلق معنى من أكبر الصدمات التي تقتحم حياتنا، أي نعم نحن لا نمتلك مفاتيح الأحداث التي هي خارج نطاق تحكمنا أو حتى إدراك أسبابها، ولكن نمتلك القدرة -إن رغبنا- على أن نفعل ما نشاء بها؛ بأن نعطيها معنى يضئ لنا ما سيأتي، فنحن بذلك نكون كمن يخلق قيمة تتجاوز الألم، ربما تعبره كليةً! نعم، قد يصعب على من هو في قلب العاصفة أن يتقبل ذلك، ولكن هذا هو الطريق الأصح بدلا من الغوص والغرق ما بين الأسباب «كيف، ولماذا، ومن»؟ فعند البحث عن السبب نكون نحجز أنفسنا في الماضي بينما البحث عن معنى.. عن الغرض مما حدث، نكون حينها نركز على المستقبل، وهذا بدوره يسهم في أن ننظر إلى الوراء بامتنان، ليس للأحداث المؤلمة التي عصفت وألحقت الأذى بنا، بل إلى فرص تعزيز أو إعادة تحديد المسار للمضي قدمًا! وكيف نبدأ؟ التقبل والرضا والقناعة ثم التعلم مما حدث، إنها عملية تحويل السلبيات إلى إيجابيات، وعندها متى ما نظرنا إلى الوراء نكون قد عملنا على فهم كيف أن اللحظات السلبية كانت ضرورية لإعادة توجيه حياتنا وإعادة ترتيب أولوياتنا وغربلة من هم داخل دائرة حياتنا، وهذا هو بالضبط ما يُقصد بإعطاء معنى للأحداث السلبية.

متجذر في كل هذا هو الإيمان الصادق بأن الله سبحانه وتعالى سوف يمنحنا البصيرة والإرشاد والراحة والقوة حتى نستطيع أن نعبر الأوقات الصعبة وأن نكافح ونبحث لإيجاد المعنى… الدرس، فعندما نؤمن بأن كل شيء يحدث لسبب في مخطط الخالق الرحمن العادل المطلع، يجعلنا هذا مسؤولين عن رؤية الأشياء من حولنا من منظور جديد، وهذا بدوره يحفزنا للتفكير والتدبر وإعادة الضبط لكثير من الأمور التي قد لا نكون أعطيناها أي اهتمام من قبل.

عندما نتعرض للشر والانكسار والآثار المؤذية لسلوكيات الغير، والتي قد تكون ناتجة أحيانًا عن قصد وأحيانًا أخرى عن غير قصد، نحتاج إلى أن نتذكر أن كل شيء في هذه الحياة مؤقت ولا شيء يدوم غير وجه الله تعالى، وأن نؤمن حقًّا بأن الله يريد لنا الخير، وعندها سنصل إلى لحظة اليقظة؛ التقبل والرضا والقناعة، نعم أنه صعب كما ذكرت من قبل خاصة عندما تكون في قلب العاصفة، ولكن متى ما تم الأمر من القلب فإنه سوف يحدث ما يشبه الأعجوبة؛ فنجد أن السلام قد دخل الروح وانتعشت الهمة واشتعلت الإرادة واحتد الإصرار! أن تكون سعيدًا بما لديك ومن أنت وأين أنت، عملية تعزز لديك التواضع والبساطة، وتعلمك أن تكون سعيدًا بما لديك سواء كان ذلك قليلًا أو كثيرًا، هي ليست فقط أن تقدّر نعم الله عليك، بل أيضًا أن تكون راضٍ عن حاضرك، وأن تثق في أن المنعطفات من التحديات أو الصدمات التي تقتحم حياتك ما هي إلا لصالحك، حتى لو بدت لك غير ذلك في حينها، وتستمر مُتَحليًا بالطموح والرغبة في التطور، والنمو، والتقدم، والبناء!

الخطوة التالية هي أن نسامح، وهذا لا يعني أن نتنازل عن حقوقنا، نسامح لكن لا ننسى الحكمة من الحدث ولا الحذر من المتسبب! فبالرغم من أن المسامحة هي الطريق إلى الشعور بالتفهم والتعاطف والشفقة على من قام بأذيتنا، فهي لا تعني أننا نعتقد بأن الآخر كان له الحق في إيذائنا، أو الضعف أو التغاضي عن المعاملة السيئة، ولا هي انتظار اعتذار أو ندم من الطرف الآخر، لأنه على الرغم من المسامحة لا تزال هناك عواقب يجب أن يواجهها كل من أساء! فالمسامحة هنا هي فقط وسيلة تجلب لنا نوعًا من السلام الداخلي للمضي قدمًا واجتياز الألم، نسامح لأن ذلك عبارة عن عملية تخليص عميق على مستوى الروح لآلمنا وأحزاننا ومعاناتنا، نسامح دون تعالٍ أو منّ أو تكبُّر، وعندما نسامح يكون لأننا نريد أن نكون أحرارًا؛ أصحاء من الضغينة التي تعكر صفو حياتنا!

هل أنت مستعد لأن تسامح؟ قد تكون مستعدًا، وقد لا تكون… المهم أن تتذكر أن المسامحة هي أول الطريق لأنه ما زال هناك العفو والصفح والمغفرة، وذلك يحتاج إلى إيمان قوي وإرادة صلبة! فالمسامحة في الأمور البسيطة سهلة، بل هي من ضمن منظومة القيم الأخلاقية مثل النقاء والطيبة ودماثة الخلق والتقدير والرحمة والإيثار ويقظة الضمير، ولكنها في الأمور الصادمة والمدمرة تعتبر عملية صعبة لذا لا تستعجلها، وعندما يحين الوقت المناسب ستدرك ذلك حتمًا، وبعدها تبدأ رحلة التطهير الكلي من المشاعر السلبية لتنطلق بثقة وقوة لتسمو فتعفو وتصفح وتغفر.

المصدر : صحيفة الوطن السعودية

Translate »