ميسون الدخيل : ” عبقرية فاشل “
العرب نيوز ( روؤس – أقلام ) بقلم د. ميسون الدخيل – تحمل رواية «اتحاد الحمقى» في طياتها العديد من المعاني، ليس فقط داخل صفحاتها، ولكن أيضا خارجها، حيث تتصل برابط وثيق بالمأساة التي عاشها مؤلفها «جون كنيدي تول»، وهو يحاول نشرها، مؤمنا تماما في البداية بأنها عمل إبداعي، وتستحق أن تنشر من قِبل دار نشر «سيمون أند شاستر»، الأفضل والأكثر شهرة في ذلك الوقت، ولكن رفض صاحبها «روبرت غوتليب» ذلك بإصرار مواز لإلحاح المؤلف، مما جعله يعيش حالة يأس، أدت إلى فقدان ثقته بذاته، ورغبته في الحياة.. فانتحر!. بينما إيمان وثقة والدته بعبقرية ابنها تمثلت في تصميمها على التواصل مع العديد من الناشرين، ولم تيأس حتى وصلت إلى الكاتب «والكر بيرسي»، وحاصرته إلى أن قرأ الرواية، بعد تردد وعلى مضض، ليجد بعد التمعن والتركيز أن ما كان بين يديه عمل إبداعي بامتياز، وتم نشر الرواية بمساعدته، وحصلت على جائزة «البوليتزر» بفرع «القصص الخيالية» في 1981م، أي بعد أحد عشر عامًا من وفاة المؤلف!.
تبدأ الرواية بالاقتباس التالي: «عندما يظهر عبقري حقيقي في العالم قد تعرفه من خلال هذه العلامة، أن الحمقى جميعهم في تحالف ضده» – جوناثان سويفت، أفكار حول مواضيع مختلفة (1738م)، فتعتقد أنك سوف تقابل بطل رواية عبقري، يُحارَب من الحمقى من حوله، ولكن تفاجأ بأنه يأخذك إلى منحى آخر تماما.. فهو الذي يُحارِب!. إن الرواية عبارة عن كوميديا سوداء، لا تعرف متى يجب أن تفكر وأنت تضحك في كل موقف يتجلى مع مرورك على الصفحات الطويلة، فمهارة «جون» تكمن في أنه يجذبك إلى القصة في إطار كوميدي دون الحاجة إلى تقييم عدم ترابط طريقة بطل الرواية «أجنيشس» في قراءة العالم، بمعنى أنك، دون التوقف والتفكير في المشكلة، تتعلم كيف «لا تقرأ» من خلال رؤية نتائج طرق تفكيره العقيمة وحياته البائسة!.
بينما يرى البعض أن الرواية تجسيد للشخصية التي تحب أن تكرهها، يرى البعض الآخر أنها تمثل تحذيرًا من القارئ السيئ أو المثقف المزيف!، فبطل الرواية، الذي من المفترض أنه مثقف، ويحمل شهادة جامعية، يعتبر نفسه فوق الجميع، علمًا وفكرًا، بل يؤمن بأن المجتمع لا يستحق أمثاله، فهو يرى انحراف وتدهور المجتمع، بينما تُعمى بصيرته عن دناءة وتدهور ذاته!.
وعلى الرغم من أنه درس النصوص الكلاسيكية والعصور الوسطى لسنوات، ولا يترك أي فرصة للتلميح بذلك، فإنه لا يزال غير متطور كإنسان، فلا يزال منعزلا في عدم قدرته على التفاعل برقي مع من حوله!. المشكلة أنه يعيش بشكل مجزأ، وفقا لأي حكمة «مجتزأة» تناسب خياله، وفي الوقت الذي يعيشه، وبذلك يكون قد فشل في استنباط المغزى الأساسي مما كان يقرأ، حيث كان يُشرِّح ويعيد تجميع ما يقرأه مشوهًا، وفي الوقت نفسه تجده متمسكًا، وبكل عنجهية، بعالم مغلق من صنعه؛ لا يرى إلا ما يريد أن يراه!، وهذا ما كان يقوده إلى خيارات سيئة تضعه في مواقف هزلية شبه مأساوية!. إن «أجنيشس» هنا يمثل القراءة السيئة للفكر والأدب الجيد، ناهيك عن ممارسة حريته على حساب الآخرين، والتقليل من شأنهم.
في اعتقادي أن هذه الشخصية لم تقدم للتسلية والضحك، بل رُسمت لكي تحذرنا – ضمن تحذيرات أخرى تتعلق بانحراف أخلاقيات المجتمع وانتكاس المدنية – من الانغماس في قراءة الكتب، والخروج منها فارغين، فكرًا، بثراء من العبارات والمقولات المقتبسة التي نطوعها لخدمة معتقداتنا، وهذا يعني أن ننتبه إلى أن كيفية قراءتنا للنص، أي نص، أمر مهم بقدر أهمية الكمية التي نقرأها، فما أربك «أجنيشس» ليس قائمة الكتب الضخمة التي قرأها، بل إساءة استخدامها من خلال تحوير وانتقاء ما يناسبه، واستخدامه كحجة للانتقاص من كل ما يرفضه حسب فكره ومعتقداته. إذا تساءلت عزيزي القارئ يوما: كيف يمكن أن يصبح الأشخاص الذين تلقوا تعليمًا راقيًا، وتتلمذوا على كتب قيمة، سيئين في الفكر والمنطق؟!، ستجد بطلنا أكبر مثال على ذلك، لأنه يسيء استخدام كل ما قرأه بشكل كريه فاضح وفظ، وهو يحارب ما هو كريه فاضح وفظ، وهنا تكمن المفارقة.
إن المغزى الأول من المقالة هو أن القراءة الجيدة عبارة عن إجراء محادثة مع النص، تماما وكأنك تتحدث مع شخص ما في مقهى أو جلسة حوار؛ تستمع أولًا إلى الأفكار باهتمام، ثم تستجيب لها، فالأمر هنا أنك لا يمكن أن تستنبط الحكم أو المغزى أو الرسالة، أو حتى الجمال من النص، إذا تعاملت معه بقلب أعمى وعقل مُغلق؛ كأن تفترض بأن المؤلف ليس لديه ما يعلمك إياه، أو أن تتعالى عن صياغة أسئلة للتفكير والتعمق في النص أو الحوار، ليس لعدم اتساع النص لذلك، بل لعدم احترام مستوى قدرات صاحب النص أو من هو أمامك خلال المحادثة، فلو أنك صفيت أي أفكار لا تتطابق مع فكرك أو حتى العكس؛ بأن تنتقي فقط ما يتطابق مع فكرك وتهمل الباقي، بالتأكيد سوف تخطئ في الفهم، وتخرج بصورة مغايرة للقصد أو الرسالة.
أما المغزى الثاني، فهو من مأساة المؤلف الذي نجح في إنتاج عمل إبداعي، لكنه فشل من حيث إنه أعتقد أن رأي ناشر في مؤسسة نشر درجة أولى هو الفيصل.. أصر على طرق باب واحد، بينما كانت النوافذ كثر أمامه!. قد تُغلَق معظمها، ولكن مع الإرادة والإصرار كان سيجد تلك التي سيمر من خلالها، ويصعد إلى القمة. لقد فشل لأنه سمح لفرد، لا يعرفه ولا يهتم لأمره، أن يهز ثقته بذاته.. استسلم وخسر حياته!.
المصدر : صحيفة الوطن السعودية