ميسون الدخيل : بريق الأنجم في الظلمات
العرب نيوز( روؤس – أقلام ) بقلم د.ميسون الدخيل – أثّرت العولمة بشكل سيء في الحياة، بحيث أنه أسهمت في بناء جدران من العزلة ما بين البشر، ويمكن القول إن أسباب العزلة البشرية تبدو وكأنها تكمن في تطور التكنولوجيا وتسيد المادية وتمجيد الذاتية، بينما ما سهل كل ذلك هو ظهور الأصم الأبكم!
وبينما يشكل الاتصال المباشر الرابط الرئيسي بين الإنسان والإنسان، نجد أنه قد تضرر بسبب نمط الحياة السريع للبشرية الذي تشكل في نهاية القرن الماضي، إضافة إلى ظهور الإنترنت التي بدورها أثّرت وبشدة على حياة الإنسان وأصبحت العلاقات شبه آلية وجافة وغير شخصية، بل إنها أسهمت في توالد الشعور بالوحدة والفراغ العاطفي في الأفراد خاصة مدمني برامج التواصل الاجتماعي.
وبالنظر إلى مجتمعاتنا اليوم، يبدو أن هذا الشعور بالفراغ أو الوحدة منتشر لدرجة أن الشخص يشعر بأنه غير محمي ومنفصل عن بقية أفراد المجتمع ما لم تكن لديه عضوية في مجموعة من مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي، أو ناد افتراضي أو ما شابه، المهم أن ذلك يشكل لهم السبيل الوحيد للهروب من الوحدة الفردية… فبطريقة ما يستخدم هذا الجماد لملئ الفراغ الذي بحياتهم.
تحول عالم الإنترنت، أو بالأحرى الأجهزة التي تحملها، إلى الصديق الأوحد؛ يستمع إلى ما لا نهاية لما لا يسمعه ويقرأ ما لا يقرأه ويرى ما لا يراه، بالمقابل لا أحد يتوقع منه أن يقول شيئًا، فالجماد الأصم الأبكم عدا على أنه مستودع الأسرار فهو صبور وداعم ولا ينتقد أو يحكم أو يسخر من الأفكار؛ ببساطة لا يمتلك الجماد الغطرسة المعتادة من الكثير من البشر ممن يعتقدون بأنهم ملمون بكل شيء وهم فقط ملاك الحقيقة وجميع ما سواهم على خطأ! ففي صمت هذا الجماد الأبدي تجد أنه من السهل على المرء الكشف أمامه عما يجري في قلبه من أوهام أو في حياته من آلام، وذلك للأسف ما لا يمكنه فعله مع الكثير من البشر اليوم.
أما المراقبون الذين يعتبرون أنفسهم أقل تأثرًا، بفضولهم يقعون أيضًا في سحر هذا الجماد الأصم، لأن التردد لمتابعة العلاقات الإنسانية، وإن كانت بموضوعية، هو أيضَا إدمان، والإدمان يؤدي إلى العزلة والعزلة تؤدي إلى الكآبة… ولو بعد حين.
أصبحنا نعيش في غربة ونحن بين الناس نتحرك ونتحدث بل ونتفاعل وقتيًا كما يراد لنا أو كما هو المتوقع منا… ثم نستدير وننتقل للحدث الذي بعده… كآلات في مصنع تنتهي وتغلف وترسل، وتعود إلى أول الخط من أجل منتج جديد!
أصبح في القلب فراغ… بل غربة في الروح صنعناها بأيدينا!
ما أقسى غربة الروح! نعيش في حدود يومٍ ونتوق إلى زمن غاب وانطوى…. ما أصعب هروب اللحظات؛ لا نعرف أين اختبأت؛ مع «مليك الجن» في كهف مهجور أم مع حورية الإلهام في بحر مسحور؟!
أين ذهب العمر… ونسأل: ترى هل هو سجين في انتظار أن نحرره؟ أم ما زال هناك ينتظر ما بين البساتين والأحراش؟
شوق يشعل الدم أم لهيب يسبح مع الروح؟
نام الأمس… وهبت رياح الذكرى، فسالت الأدمع تبكي حرقةً واشتياقًا لخطوات مشيناها، لكلمات نسيناها… لدار تنادينا… لحضن خال، للهفة عمة، لدفء صوت في ليالٍ ماطرة، لعبارات تغزلنا قصصًا وتنثرنا روايات نبحر معها من ميناء إلى ميناء، للعواصف وهي تطرق النوافذ معلنة اتحادها مع تمرد البحار، لهلع القلوب وتسارع النبض عند اختطاف «ست بدور»، للضياع ما بين «سبع بحور».
ساعات تسرق من العمر ونستيقظ وكأننا كنا في غفلة لنجد أن الماضي ما كان سوى حلم… ورحلات الأيام باتت أنجمًا باهتة في السماء… ذاك النجم وجه أبٍ كان فرحًا يومها… وتلك التي بالكاد تُرى؛ وجه توأم الروح تنذر بقرب سفر النسيان.
تعبت الطرقات من انتظار وقع خطواتنا فهل تعبنا؟! في عالم افتراضي… هل ما زلنا نحلم؟ نسير بلا آثار فإن عدنا هل ستعرفنا؟
تغيرنا… دروب أشغلتنا ودروب أنهكتنا ودروب أعادت رسم ملامحنا…غرباء بتنا حتى على أنفسنا.
كم فرحنا! كم غزلنا من ورود على أسطر الصفحات، وعدنا ولم نجدها… اختفت الأسطر وضاعت الكلمات! تأخرنا… تأخرنا، تركناها لتذبل، وعندما تحركت الأصابع لقلب الصفحات اهتزت الأبجدية وتناثرت مع النسمات!
أبحرنا في عالم الصور والكلمات… سرقتنا أمواجه العالية… أبهرتنا… أذهلتنا… ونسينا أننا بشر! هجرنا التواصل مع الروح… مع الدماء… مع النبض… مع دفء الأسرة في الجلسات.
هل بقي من العمر عمرًا؟ لا ندري كله بين يدي الحق الوهّاب… لنهجر التعلق بالجماد ونتواصل مع من كرمه رب العباد، عندها سوف تنتعش القلوب ويتحرك النبض معلنًا الثورة على الهجر والبعاد، ويعود بريق الأنجم في الظلمات.
#العرب_نيوز ” أخبار العرب كل العرب “