جواد بولس : مرسيل خليفة يزرع حدائق الأمل على مسارح عمّان
العرب نيوز (رؤوس – أقلام ) بقلم المحامي جواد بولس – وقف الفنان مرسيل خليفة على مسرح “الأرينا” في مدينة عمان في شهر آب/ أغسطس الفائت وغنّى للقدس . في تلك الليلة، هكذا أذكر، وجه كلامه لشباب القدس ولأهلها قائلًا: “ارتفعوا عن الثرثرة السياسية التافهة واظهروها كما هي في خيانتها” وأضاف مخاطبًا أهل فلسطين الغائبة عن أحلام العرب وقال: “أنتم الوطن بلا علم وبلا نشيد، وجودكم في قلب الموسيقى اعتراف صريح بطقس التحرير”. ثم غنّى .. وضج ليل عمّان وامتلأت سماؤها بالشهد وبالندى؛ ومضى مرسيل المنتصب القامة، حاملًا ريشته وعوده والوجع، في طريقه نحو القدس.
لم يمرّ عام حتى عاد مرسيل الى عمان ليضيء ليلها، هذه المرة، من على مسرح المدرج الروماني الجميل، بالفرح وبالأمل. يضيء ليل أجيال عربية يريد البعض أن تبقى في عتمتها وتمضي في دروب التيه والضياع.
لمحته عندما دخلت ردهة الفندق. كان جالسًا على الكنبة بهدوء، الى أن اقتربت منه ورآني فوقف ولغة جسده تحدثني بغضب خفيف؛ وسألني عن سبب تأخري. أخبرته أننا واجهنا “وعكة” على نقطة الحدود، لكنّها انتهت بسلام ؛ فتبسّم وكان حزينًا مثلما كنت أنا.
تناقلنا بعض الاخبار الخاصة، وتفاصيل ما حدث معنا على الحدود، ثم انتقلنا للحديث عن ترتيبات الحفل، لا سيما حول تفاصيل الفقرة التي سيسلم خلالها جائزة محمود درويش للابداع عن عام 2023، عن فئة المبدع العربي، كما اعلن عن ذلك خلال الحفل الذي اقيم في قاعة “الجليل” بمتحف محمود درويش في مدينة رام الله يوم الثالث عشر من آذار/مارس المنصرم . لقد تسلّم الجائزة آنذاك عن مرسيل خليفة مدير عام مؤسسة محمود درويش فتحي البسّ لتعذر وجود مرسيل في رام الله؛ وتم الاتفاق على ان يستلم مرسيل الجائزة شخصيًا في الأمسية التي سيحييها على مسرح المدرج الروماني في عمان يوم السابع عشر من حزيران /يونيو.
لم يكن صعبًا عليّ أن أرى الفرح الكبير في عيني مرسيل وهو يحاول أن “يُخرج” أمامي تفاصيل تلك الفقرة ويطلب مني الحرص على تنفيذها على المسرح. كان فرحه صافيًا وخاليًا من أية نبرة عتب؛ فمن أحق منه بنيل جائزة محمود درويش للابداع ؟ لا أعرف لماذا أغفل في السنوات الماضية القيّمون على اعطاء هذه الجائزة اسم المبدع الأصيل الفنان مرسيل خليفة، وقد كان برآيي وبرأي الكثيرين أوّل الجديرين بنيلها. هذا التساؤل مني ومن كثيرين مثلي، خاصة وانه ينالها هذا العام، كما جاء في مسوّغات لجنة الجائزة لأنه “أغنى التراث الموسيقي والغنائي العربي باضافات لافتة، كما وصدحت موسيقاه وصوته في كل الحواضر العربية والعالمية، وحفر عميقا في ذاكرة الجماهير العربية وأثّر في وعيها وساهم في تثوير ضمائرها وتشكيلها. علاوة على انه خص الشعر الفلسطيني بابداعه، فمحطات مساره الموسيقي مؤثثة بنصوص من هذا الشعر عمومًا وبشعر محمود درويش على وجه التعيين .. ولدقة اختياره للكلمة ولمساهمته في التطوير الموسيقي، ولالتزامه الوطني واختياراته الواعية للشعر الانساني، ولارتباط تراثه بالقضية الفلسطينية وللثنائية الفريدة التي تحققت بينه وبين درويش”. قد تكون كلمات لجنة الجائزة الأخيرة الأكثر وقعًا في نفس مرسيل خليفه؛ فلهذه الثنائية / التوأمة الفريدة بينه وبين محمود درويش، مكانة مقدسة في وجدانه. فمرسيل الذي آمن وهو شاب وثائر “بوعود العاصفة” ظل يقاتل ودرويشه “في ساحة البلد مع أحمد العربي” ولا ينام كي يحمي ليل العاشقين عند “سقوط القمر”. انه الفنان المبدع الثابت في زمن المتحوّلين والقيم السائلة.
أبديت تخوفي أمامه من عدد الحضور والمسرح معروف بسعته الكبيرة وضخامته، لكنه كان واثقًا بنجاح أمسيته؛ وعندما سألته من أين ياتي بكل هذا العزم ؛ سكت كعادته للحظات، فتكلمت عيناه المتعبتان، ثم همس وهو يمسك يدي بكفه: “هذا هو حدسي. هكذا حدّثني قلبي وهكذا قال لي الحمام”.
كان محيط المدرج الروماني يعج بالوافدين، وكان المنظمون وعناصر الأمن يوجهون حركة السيارات والناس بهدوء ونظام ملحوظين. دخلنا بسهولة، حسب توجيهات المنظمين. وقفت في صحن المدرج الكبير. كان ورائي المسرح، تنتظر كراسيه صعود مرسيل وفرقته، وأمامي كانت تتشاهق الى الاعلى صفوف المدرجات باقواس منفرجة حتى لامس ابعدها أنف السماء. بدت المقاعد الصخرية ، من بعيد، بلون ورق الشجر الذابل في أواخر الخريف، فهي لم تكن صفراء تماما ولا بنية ولا بيضاء .كانت بلون الطين الذي حكت عنه الأساطير أو ربما هو لون الزمن حين يذهب أصحابه في التراب. رويدا رويدا بدأت الصخور تغير ألوانها حتى أصبحت في غضون نصف ساعة كلوحة مزركشة بخليط ألوان صبغها رسّامون محترفون. امتلأت المدرجات وقدر عدد الحاضرين بأكثر من ثلاثة آلاف شخص. نطق الصخر ودبّت في الهباء حياة.
استقبل الجمهور مرسيل وفرقته بهتافات وتصفيق عاليين. وعندما ضرب بريشته عوده علت أصواتهم وبدأوا يغنون معه. اختار ان يبدأ ليلته مع كلمات الشاعر طلال حيدر “بغيبتك نزل الشتي”، وانتقل بعدها الى مقطع من “يطير الحمام يحط الحمام” لمحمود درويش ثم غنى له أيضا “في البال اغنية” و”ريتا” و”أحنّ الى خبز أمي” . كان الحاضرون واقفين كالسهام ، يتراقصون بشجى ظاهر، ويرددون مع مرسيل كل الكلمات، وأحيانًا كانوا يغنون لوحدهم. فكلما كان عوده يطن بمطلع اغنية كانت حناجرهم تسبقه بحماس كالذي كان يصيبنا، ولم يزل، من قبل اربعين عامًا، أي قبل ولادة معظم الحاضرين بجيل. غنى لسميح القاسم “منتصب القامة ” فضجت الأقمار في سماء عمان وصحت حجارة “روما” على غضب هؤلاء العرب؛ وحين أعلن “اني اخترتك يا وطني” جاوبه المدى “حبًا وطواعية”، فتذكر التاريخ صاحب الكلام، علي فودة، الباقي في الكلمة رغم نار الرصاصة التي قتلته. ثم غنى لوحده “احن الى خبز أمي”، فكان صمت وكانت تناهيد وكان حنين وكان فرح. ثم دعي بعد هذه الاغنية مدير عام مؤسسة محمود درويش، فتحي البس، الى المسرح، فقام بتسليم درع جائزة هذا العام لمرسيل وقرأ على الملأ مسوغات قرار لجنة الجائزة، وأعلن ان مرسيل تبرع بريع جائزته للمؤسسة نفسها. ثم عاد مرسيل للغناء وأنهى الليله بنشيد الانشاد، وهو في عرف حماستنا “شدوا الهمة” ، فغناه بمصاحبة عاصفة من التصفيق ومشاركة الآلاف بالغناء. لقد تعمّدت أن أنقل للقراء مشاهد من أجواء العرض، لأثبّت صورة ايجابية عن قطاعات واسعة من أجيال هذا الزمن، التي يحاول الكثيرون، عربًا “وغَرَبا” وعجمًا، من صناع الرأي العام المغرض والمخططين لضياع شعوبنا، اقناعنا بأن مثل هذه “الخامات” قد انقرضت ولم تعد موجودة بيننا. وكي أكون صريحًا حتى أنا تفاجأت من المشاهد التي رأيتها فآلاف من الشبان والشابات من عدة دول عربية، وبعضهم كانوا يرفعون اعلام دولهم، وقفوا وقفة “هم واحد” وغنوا مع مرسيل اغاني للحرية وللكرامة والغضب، وغنوا للحبيبة وللنبيذ وللوطن، حتى لو كان بالنسبة لبعضهم وطنًا متخيلًا أو مشتهى أو مستحيلا أو محظورًا عليهم.
كان حدس مرسيل صادقًا؛ وكانت ليلة من الليالي التي يولد فيها الامل ليس على ريشة ووتر وحسب، بل يولد من الصخر، ويتجدد في “العيون العسلية” ويكبر في قلوب “دائمة الخضرة ودائمة الثورة”، ويتناسل بين أجيال ستحفظ وتؤكد انها “ستصير يوما ما تريد “. انها ليلة تنتصر فيها “الهوية” على من يريد أن يوقفها على “نقطة”، تماما كما غنى لنا مرسيل اغنية، “وقفوني عالحدود”، ليزيل آثار “الوعكة” التي أصابتنا على الحدود. وهي ليلة يستعيد فيها المرء نطفة روحه ويصير الحر أخًا للحر.
فإلى من أعطى أنفاس روحه لتفريح الناس من دون حساب وزرع في حدائقهم نور الشمس، والى من آمن بكرامة الانسان وبحريته وبالحب، ولم يحتمل مخاتلة التأويل أو تردد المجاز ، والى صاحب القلق الجميل، النازف على شرفات الوجع،
والى من يقف على حد ريشة وينام على غنجة وتر،
والى من يجمع جنون الليل في قفف من احلام ونغم
والى من أقنعتنا حنجرته أن نرفض الموت البليد ونغني للفرح “خلف أجفان العيون الخائفة”،
والى من علّمنا ، منذ خمسين عامًا، كيف نرقص على أهداب فجر عبوس وهو يعانق ضجر الليل،
اليك يا مرسيل نقول شكرا .