عبدالحليم قنديل : طريق “إسرائيل” المسدود
العرب نيوز ( رؤوس – أقلام ) بقلم المحلل السياسي أ. عبدالحليم قنديل – برغم مضى حرب “غزة” فى شهرها الثالث ، وتضاعف وتيرة مجازر جيش الاحتلال للفلسطينيين المدنيين العزل ، وقفز أعداد الضحايا على نحو فلكى مرعب ، فإن طريق “إسرائيل” إلى تحقيق نصر أو شبهة نصر عسكرى يبدو مسدودا ، ولن يستطيع قادة العدو على الأغلب مواصلة حربهم كما يعلنون ، ولا الاستمرار بالقصف الوحشى المجنون لسنوات ولا لشهور ، ولا الاقتراب خطوة من بلوغ الأهداف المعلنة ، فى محو “حماس” وخلعها واستعادة أسراهم لدى المقاومة بالقوة المسلحة ، برغم الدعم العسكرى اللانهائى من واشنطن ، والمشاركة الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية المعلنة المباشرة فى التخطيط والتنفيذ الميدانى للعمليات ، وربما تنتهى حروب “إسرائيل” وأخواتها وحاضناتها إلى خيبة سريعة كاملة الأوصاف .
وقد تكون من أسباب كثيرة لتوقع فشل الحرب الهمجية ، لكن أهم الأسباب فيما نظن ، والتى تتقدم ما عداها ، هى عقيدة قتال المقاومين فى “غزة” ، وإبداعاتهم المذهلة فى عمليات تدمير آليات العدو العسكرية ، وإرسال أكبر عدد من جنوده وضباطه إلى الجحيم ، وهو ما ظهر مع تحول التوغلات البرية من مدينة “غزة” وجوارها فى شمال القطاع إلى “دير البلح” و”خان يونس” بالذات ، وهو ما وضع جنرالات العدو فى حال بائس يائس ، فهم ضائعون فى المتاهة ، يحدثونك عن مرحلة ثانية وثالثة ، بينما لم ينتهوا بعد من المرحلة الأولى فى الغزو البرى ، فلم تستطع قواتهم تحقيق تقدم وسيطرة ثابتة فى أغلب نواحى مدينة “غزة” وجوارها ، ولاتزال دباباتهم وناقلات جندهم تصفع كالذباب فى مدينة “غزة” ومخيماتها وجوارها ، ولا تزال قواتهم تسقط فى الكمائن عند فتحات الأنفاق ، وفى دوائر العبوات الناسفة ، ولا تزال المقاومة على شراستها الفتاكة فى “جحر الديك” و”بيت لاهيا” و”حى الشجاعية” و”حى الشيخ رضوان” و”مخيم جباليا” وغيره ، برغم لجوء جيش العدو إلى سحب كثير من قواته المتوغلة غرب مدينة “غزة” ، والفشل الذى لاحقهم فى كل شبر دخلوه أو اقتربوا منه ، ولا تزال المقاومة بأغلب قوتها حاضرة فى الاشتباكات اليومية الضارية ، وقد زادت ضراوتها مع نقل العدو لثقل قواته إلى “خان يونس” ، فقد انتقلت المقاومة من “الدفاع المرن” فى مدينة “غزة” إلى التصدى المباشر فى “خان يونس” وما حولها ، وهو ما بدا فى ارتفاع معدلات الخسائر البشرية فى صفوف جنود العدو وضباطه الكبار بالذات ، وبما اضطر العدو إلى الاعتراف بسقوط عشرات من قوات نخبته ، يضاف إليهم كل يوم وكل ساعة ، فى استنزاف متصل لطاقة العدو البشرية ، فقد لا تهتم “إسرائيل” كثيرا بما تفقده من معدات عسكرية ، يجرى تعويضها فورا بجسور الدعم الجوى الأمريكية ، التى نقلت عشرة آلاف طن من الأسلحة الأمريكية إلى اليوم ، يصرخ “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو مطالبا بمضاعفتها ، ويقول أنه يطالب واشنطن بثلاثة أشياء ، هى الذخيرة والذخيرة والذخيرة ، فلدى جيش الاحتلال جوع حارق إلى الذخائر ، وإلى الذخائر الموجهة بالذات ، وقد شن العدو أكثر من عشرة آلاف غارة جوية على “غزة” إلى اليوم ، ويلقى ألف طن متفجرات فوق “غزة” كل يوم ، إضافة إلى قصف متصل من البر والبحر ، استهلك فيه ملايين القنابل العادية ، ومئات الآلاف من القنابل الأمريكية الموجهة من كافة الأنواع والأجيال الأكثر تطورا ، بينها أحدث القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات ، القادرة على الوصول لأعماق تحت الأرض تزيد على الثلاثين مترا ، لكن كل هذه القنابل الضخمة ، التى يفوق بعضها زنة الألفى رطل ، تستخدمها الطائرات “الإسرائيلية” ـ الأمريكية ـ لدك المنازل والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس ، ولم تصب واحدة منها شيئا من مدن أنفاق “حماس” حتى الآن ، فالعدو لم يتوصل بعد لمعرفة مفيدة عسكريا عن خرائط أنفاق “حماس” بالغة التعقيد ، برغم تكثيف المراقبة الجوية والأرضية عبر شبكات الجواسيس ، أو عبر “الأواكس” الأمريكية ، وعبر الأقمار الصناعية وطلعات الاستطلاع الجوى الأمريكى والبريطانى ، وما من طريق سالك لهدم الأنفاق وقتل من فيها ، برغم الإعلان عن خطط وصفت بالشيطانية ، من نوع استخدام قنابل الدخان وقنابل الرغاوى وغاز الأعصاب و”الروبوتات” المتقدمة ، أو تجهيز مضخات هائلة واردة من أمريكا ومن ألمانيا بالذات ، بهدف جلب مياه البحر المتوسط لإغراق الأنفاق ، وكلها خطط أقرب إلى “الخيال العلمى” كما وصفها مسئول عسكرى “إسرائيلى” ، فهى غير قابلة للتنفيذ ، ولا للنجاح حتى لو جرى تجريبها ، وعلى مدى شهرين مضيا منذ هجوم السابع من أكتوبر المزلزل ، بدت عيون إسرائيل وأخواتها عمياء تماما ، وظهر فشلهم الاستخبارى المريع ، برغم الإمكانات التكنولوجية الأعلى فى الدنيا كلها ، ونجحت قيادات المقاومة فى حروب الخداع والتضليل العسكرى ، ولا يزال جنود الله من رجال المقاومة ، يواصلون صنع بطولات كالمعجزات ، ويخرجون لقتال العدو كالأشباح فى ظلال الملائكة ، ويبدون شجاعة بلا نظير وإقداما أسطوريا ، وبوسائل قتال ناسفة صنعت ذاتيا فى القطاع المحاصر منذ نحو العقدين ، وبرغم انعدام التكافؤ المادى الحسابى فى وسائل الحرب وأدواتها ، ترجح كفة المقاومة فى معارك الميدان وجها لوجه ، وتهزم قوات العدو فى كل اشتباك من المسافة صفر ، وتعترف دوائر العدو العسكرية بتفوق “حماس” فى المعلومات والقتال والمعرفة بالأرض ، وبما يصيب جيش الاحتلال بحالة من الذعر المتفاقم ، فهم يواجهون رجالا لا يهابون الموت ، بل يطلبون الشهادة كأغلى الأمانى ، ولا تؤثر فى تنظيم قواتهم أى خسائر بشرية ، ولا يعنى استشهاد قادتهم خوفا من فوضى ، فكل قائد يرحل فى معركة ، يحل محله على الفور قادة بدلاء ، وبذات الكفاءة والمقدرة والتدريب المميز ، وهنا معضلة “إسرائيل” العظمى ، التى لا تخشى شيئا أكثر من الخسائر البشرية العسكرية ، وقد اعترف العدو بمقتل المئات من جنوده وضباطه فى حرب الشهرين ، وأخفى إلى حين الأرقام الحقيقية لقتلاه وجرحاه ، واعترف مع الهدنة الموقوتة بجرح ألف من ضباطه وجنوده فى معارك مدينة “غزة” وجوارها ، ثم لجأ مجددا إلى حجب الأرقام الحقيقية بعد استئناف الحرب باتجاه “خان يونس” ، التى يتكبد فى معاركها خسائر بشرية مضاعفة ، وربما لن يكون مفاجئا لأحد ، أن يلجأ العدو فى الأسابيع المقبلة إلى وقف عدوانه البربرى ، وإلى التسليم ضمنا بهزيمة عسكرية محتومة ، وأن يتجاوب مرغما مع شروط المقاومة ، وأن يتقبل الإفراج عن كل الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق المقاومة لكل الأسرى “الإسرائيليين” ، فقد جرب العدو أن يعلن حربا على المقاومة تمتد لسنوات ، ثم خفض المدة إلى شهور ، قد تختصر لاحقا إلى أسابيع ، وبالذات مع استطراد النزيف الموجع فى الخسائر البشرية العسكرية ، مضافا إليه نزيف مواز فى الاقتصاد ، فكل يوم حرب يكلف “إسرائيل” إنفاق 270 مليون دولار بأحدث الأرقام الرسمية ، تدفع واشنطن أكثر من ثلثها ، وبرغم التبرع اليومى السخى ، تكاد واشنطن تفقد الأمل فى أى نصر محتمل لجيش الاحتلال الإسرائيلى ، وتخشى إدارة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” ، أن ينسحب عار “إسرائيل” على صورة واشنطن المتصدعة ، وأن يخسر “بايدن” فرصته فى إعادة انتخابه رئيسا ، وأن يلحق “بايدن” “نتنياهو” إلى قعر مزابل التاريخ .
وبين “إسرائيل” وأمريكا حالة اندماج استراتيجى ، بدت ظاهرة مقتحمة فى حربهما المشتركة ضد “غزة” ، وقد تتردد حكومة “تل أبيب” فى إعلان وقف العدوان ، وتتظاهر بأنها تستجيب لضغوط حكومتها الرديفة فى واشنطن ، ربما لتحفظ ما تبقى من ماء وجه الرئيس الأمريكى المتفاخر بصهيونيته الزاعقة ، بينما الكل يعرف الحقيقة الصلبة ، وهى أن واشنطن هى التى تدير العدوان ، وتشارك مباشرة فى جرائم الحرب ، وتأمر بالإبادة الجماعية لأهل “غزة” العزل ، لكنها ـ أى واشنطن ـ فوجئت بالصمود الأسطورى المذهل لأهل “غزة” ، برغم كل الدمار الذى جرى ويجرى ، وارتقاء عشرات الآلاف من أهل “غزة” إلى مقام الاستشهاد ، وتقطيع أشلاء الآلاف تلو الآلاف من النساء والأطفال بالذات ، فوق حروب التجويع والتعطيش ، والحرمان الشامل من أبسط موارد الحياة ، وقطع الغذاء والدواء والماء والوقود والاتصالات ، وتدمير الطرق والمطاحن وأغلب المبانى والوحدات السكنية ، فى محرقة بلا مثيل للبشر والحجر ، لكن الفظائع كلها لم تدفع أهل “غزة” للاستسلام والهروب ، وقبول التهجير إلى خارج وطنهم ، فوق دعمهم المعنوى المرئى لحركات المقاومة ، التى لم تلن إرادتها ، ولا تراجعت ثقتها بنصر الله القوى العزيز ، وكلها موارد أساسية لتحطيم حرب العدوان ، وكسر إرادة المعتدين ، ودفعهم إلى نقطة التسليم بالفشل والخسائر المحققة ، فالمقاومة تكسب الحرب عسكريا ومعنويا ، وتضيف ألقا وحضورا غير مسبوق لقضية الحق الفلسطينى ، وتنتصر لشعبها الصابر المحتسب ، الذى صار كأنه “شعب الله المختار” ببلاغة وقائع التاريخ الجارى .