روايةِ «خمسة صِبيان وَصَبيّ» للدكتور الأديبِ رياض عُثمان واقعية بامتياز
العرب نيوز ( بيروت – اللواء ) بقلم مروان محمد الخطيب – روايةُ (خمسة صِبيان وصبيّ)، للكاتبِ والأديبِ الدكتور رياض عثمان، تضعُكَ وجهاً لوجهٍ، أمامَ مَفهومِ الرِّوايةِ في تصنيفِها النَّمطيِّ. فهيَ روايةٌ واقعيَّةٌ بامتياز، من حيثُ معالجتُها أَحداثاً واقعيَّةً، هيَ من صميم الموروثِ الفِكريٍّ، والاجتماعيِّ المُعَشِّشِ في أرواعِ وقلوبِ وأداءاتِ جَوارحِ أبناءِ تلكَ البيئةِ القابعةِ بينَ الأَعالي والجبال في منطقةِ الضِّنيَّةِ، شرقِ طرابلس من محافظةِ لبنان الشِّمالي. وهي في الوقتِ ذاتِهِ رِوايةٌ تاريخيَّةٌ، حيثُ نقلُها وتصويرُها روحَ وجوهرَ الحياةِ في زمانها ومكانها، إلى زماننا الجاري الآن. وهي أيضاً، لا تبتعدُ عن الاقتباسِ من هُويَّةِ الرِّوايةِ الطَّبيعيَّةِ، حيثُ يُبْرِزُ لنا الرَّاوي بشكلٍ أو بآخرَ، أثرَ العَواملِ الوِراثيَّةِ والبيئيَّةِ في الإنسانِ وَمَساراتِ أقوالهِ وأفعالهِ. ولعلَّ هذا النَّمطَ من الرِّواياتِ قدِ انتشَرَ واشتُهرَ في وقتٍ مُبكِّرٍ من بروزِ وظُهور الرِّوايةِ، لا سيَّما مع صاحبِ (الأُخوة كرامازون) الرِّوائي الرُّوسي ثيدور دويستوفسكي الذي يُعَدُّ من أقدرِ الرِّوائيين على وصفِ الحالةِ الإنسانيَّة ودقائقِ نفسِ الإنسان،. وبالعودةِ إلى روايتنا (خمسة صبيان وصبي)، نقرأُ لِصاحِبِها قولَهُ في الصَّفحةِ السَّابعةِ حولَ إمكانيةِ تَصنيفها في إطارِ الرَّوايةِ التوثيقيَّةِ التأريخيَّةِ لِحقبةٍ غامضةٍ في منطقةٍ مُهْمَلَةٍ أصبحت حيَّةً بفعلِ أبنائها الذينَ تَغلَّبوا على واقعِهم وواقعِ منطقتِهم الخام، فَسَطَّروا نجاحاتٍ مُتعدِّدة على الصَّعيدين: الخاص والعام، والشَّخصي والمحليِّ، درجَ النُقَّاد على تسميةِ هذا النوعِ الكتابي «السِّيرة الغَيريَّة». ويتابعُ في الصَّفحتين الثامنةِ والتاسعةِ قولَهُ: «… الروايةُ تُشبهُني وأنا فردٌ من أَبناءِ الضِّنيَّة» قريبةٌ من طُفولتي وفُتُوَّتي، تنقلُ شَبَهي إلى جيلِ أبنائي وأحفادي وأحفادِهم. فروايةِ «خمسة صبيان وصبي»، محاولةٌ جادَّةٌ لتنقُلَ صورةً حقيقيَّةً عن قضاءِ الضنيَّةِ ومتعةِ القراءةِ الشَّاقةِ والشَّائقةِ، لِتُؤمِّنَ فُرصةَ البَوْحِ والتَّمسُّكِ بالماضي على أعتابِ الحاضر.
لا شكَ في أنَّ بطلَ الرِّوايةِ التي نحن بِصَدَدِ الكلامِ عليها، يُمَثِّلُ صُورةَ الآخرينَ من أَهليهِ ومواطنيهِ، الذين يعيشونَ في جغرافيا مَسْكونةٍ بالأعالي والأخضرِ، وبالماءِ الرَّقراقِ العَذوب.
وهو الصَّبيُّ – كما اعتادَ المؤلفُ ذِكْرَهُ – المُرتجُّ بإرادةٍ قَويَّةٍ لمُواجهةِ صُعوباتِ الحياةِ، المُمتلِكُ أنساغَ التَّفَوُّقِ صَاهِلَةً في دَمِهِ، حَدَّ تحقيقِ النَّجاح الباهر!
وهو أخٌ لخمسةٍ آخرين، وقد تآخى بالرَّضاعةِ معَ خمسةٍ غيرِهم. وقد أمتازَ الصَّبيُّ مُصطفى بامتلاكهِ أنفاسَ الثائرينَ وعَقليَّةَ الحكيم، فهوَ القائل: «لا تُوَرِّثْ أَبناءَكَ مَسَاوِئَ إِخوانِكَ كي تعلوَ بعَظمةِ إحسانِك…، دَعْ قُلوبَهم سَليمةً وأَفكارَهم حليمةً، تُصبحْ سَيِّدَ نفسِكَ، وتملكْ كُنوزَ أَهلكَ» الرواية ص ٢١٧.
وهذا البطلُ الصَّبيُّ مصطفى، لو تتبَّعنا سيرتَهُ في مَتْنِ الرِّوايةِ، نراهُ فتىً ذا إرادةٍ لا تلينُ، ولا تَسقطُ… يسعى لأمرِهِ وهدفِهِ بِصَبْرٍ لا ينفد، وبِهِمَّةٍ لا تَتَرَدَّدُ، ويقومُ في سياقِ مُعاركةِ الحياةِ على الخروج من طوطميَّةِ العاداتِ والتقاليدِ السَّائدةِ، والتي لا تُسمنُ ولا تُغني من جُوع، فتراهُ ثانيةً وسابعةً قويَّ الشَّكيمةِ، لا يستسلمُ للواقعِ البائد، فيكافحُ بلا مللٍ، ومِنْ دونِ كسل، ويرتضي أن يعملَ عَتَّالاً لكسبِ لقمةِ عيشِهِ بالحلال، ويبقى طُموحُهُ عالياً لا يتردَّى إلى الأماكنِ الواطئةِ والأحوال، ويصبرُ صامداً حتَّى يتحقَّقَ له ما يرغبُ فيه، فينالُ منه ما نال…!
ويبقى بطلُنا المكافحُ على هذه الحال، يصلُ ليلَهُ بنهاره، فيتزوَّجُ ممَّنْ يُريدُ هو، لا ممَّن يُرادُ له، ويُغامرُ عاقلاً، فيغادرُ العِتالةَ إلى التِّجارة، فيكسرُ السَّائدَ المريرَ، ويصبحُ مالكاً شرعيَّاً لقصرِ الآغا.
وكأنِّي به يهدمُ بذلكَ عَهْداً ممهوراً بالظُّلمِ الإقطاعيِّ، ليَبنيَ مَعَ الآخرين عهداً جديداً، مُحَرٌَراً من الطبقيَّةِ المقيتةِ والاستقراطيَّةِ الظٌَلوم!
بل أكثر من ذلك، يتمرَّدُ الصَّبيُّ مصطفى على خارطةِ الحربِ الأهليةِ – الطائفيَّةِ في بلدهِ، وكأنهُ يَرُدُّ على شكسبيرَ قولَه: «نحنُ بحاجةٍ إلى الخلافاتِ أحياناً، حتى نَعرفَ ما يُخفيهِ الآخرونَ في قلوبهم تجاهنا» ص٢١٧، فيحافظُ على شراكتِهِ التجاريَّة معَ صديقهِ إسحاقَ المسيحيِّ.
وَبهذا يَهْدمُ ما نَسَجَهُ هنري كيسنجر، وزيرُ خارجية الولايات المتحدة الأميركية، لجهةِ إشعالِ الصِّراع الطائفي في لبنان منتصف سبعينيات القرن الماضي خدمةً لمصالحِ الأجندةِ السياسيةِ لبلدِهِ المُسْتَعْمِرَ!
والمُدَقّقُ في الرّوايةِ وكاتِبها، لا يستطيعُ إلاَّ أنْ يُعانقَ رَجْعَهُ الذَّاكريَّ، فتبرزَ له الضنيَّةُ مَنْبِتاً للشِّعر ومَوئلاً للشُّعراء…، لكأَنَّ مَاءَها مَسْكُونٌ بجبِلَّةِ النَّغمِ والصُّورةِ، مَن تجرَّعَهُ، سَمَقَتْ في شَرايينهِ الألحانُ، وَتَعَلَّقَتْ رؤاهُ الأحلام، وتَفَطَّرَتْ يراعتُهُ على النَّشيد والقَصيد.
وفي المقامِ ذاته يَخْطرُ في بالهِ أَولئكَ الشُّعراءُ الضِّناويون وأشعارُهم النَّديَّةُ البَهيَّةُ: كَابن سِير الضنيَّة الشَّاعر أحمد يوسف، وابنِ بلدةِ السَّفيرة الشَّاعر رهيف حَسُّون، وابن كهف المَلُّول الشَّاعر بطرس بطرس… ولا ينسى لحظةً تلكَ الكوكبةَ من أبناءِ بيت الفقس الشُّعراء: أحمد طالب شحادة، علي إسماعيل، عبد الفتاح هاشم، عبد السَّلام عثمان، غسَّان حمد، محمود عثمان، ومحمود طالب شحادة. وعندَ هذا الحدِّ يستغرقُ مُتأَمِّلاً إِبداعَ وسُمُوَّ رِوائيِّه الأَديب، صاحبِ «خمسة صبيان وَصَبيّ»، الأستاذ الدكتور رياض عثمان، ابنِ ذلكَ المَنْبِتِ الأَخضرِ الفينان في بيت الفقس.
ولم يقفِ إبداعُ صاحبنا هُنا وحسب، بل تَعَدَّى ذلكَ إلى لغةٍ شِعريَّةٍ رشيقةٍ، ماتعةٍ وخَلوب، ولا سيما حينَ يمتاحُ من مَعِينِ الأنثى وصفاً فتوناً وشوقاً أتوناً، لا يذبُلُ ولا يذوي، «فالأنثى التي هي دمُ الشِّعر» على حَدِّ تعبير الشَّاعر شريف القاضي، هي بالضَّرورةِ أيضاً دمُ الرّوايةِ وكُلِّ صُنوفِ الإبداعِ، لأَنَّها محرابُ الحُبِّ ومَريمتُهُ، بل هي الحَرفُ، والنقطةُ التي تمنحُ الحرفَ فَحواهُ ومَعناه.
يقولُ صاحبُنا واصفاً فارسةَ أحلامِ بطلِ روايتِهِ مصطفى: «الحَاجبان المُنتظمان كسُنبلةِ قمح، والعينان كزهرةِ لَوز، أو كمحارةٍ في لؤلؤة، والخَدَّانِ يُشبهان وَجْهَ رغيفٍ مُقمَّرٍ، والشَّفتانِ كإسوارتيْ ذهبٍ في يدِ كسرى أو مَلكِ الرُّومان.
أمَّا القامةُ والقَدُّ والمِشيةُ فأَعمتْ عينيهِ كشَبحٍ ماردٍ بينَ يديْ ساحرٍ لا تقوى تَعاويذُ الأرضِ على فَكِّهما.
فخيرُ عطرِها الماءُ، وحُمرةُ وجهِها الحياءُ، وخيطُ كُحلها سَوادُ الرُّموشِ لا التَّكحيل، فكيفَ تتخيَّلُ جمالَها بعدَ انغماسِ وجهِها بِلَفحِ أَلسنةِ اللَّهب من نِورِ التَّنور؟
وكيف ترى انعكاسَ رائحةِ الخُبزِ البَلديِّ على أَجواءِ اللقاء؟» ص١٣٣- ١٣٤.
وبعدُ: نستطيعُ أن نَزْعمَ بأَنَّ رياض عثمان، قدْ حَمَلَنا على جَناحي إبداعِهِ بأَمانٍ مُنْطَلِقٍ في رِحابِ السَّيرةِ الغَيْرِيَّةِ، فأَرَّخَ بواقعيَّةٍ موضوعيَّةٍ، لِبَطَلِهِ مصطفى، الذي يُشبهُهُ كثيراً، والذي سارَ في تجاوزِ العَاداتِ الرِّيفيَّةِ المُقَيِّدةِ حَدَّ التَّابُويَّةِ، وصولاً إلى شمسٍ مُشتهاةٍ، تتجاوزُ الأعتامَ زارعةً النُّورَ والحُبورَ في القلوبِ الصَّاديةِ، والأملَ الأَخضرَ في الأيامِ الآتيةِ، واستطاعَ أَنْ يُقَدِّمَ لنا صورةً للنَّجاحِ البَهيِّ المُزَنَّرِ بقوةِ الإرادةِ والصَّبرِ والحُبِّ، وبالتضحيةِ التي لا تعرف التَّرَدد…!
اسرة العرب نيوز تبارك للدكتور رياض عثمان هذا الاصدار المميز كباقي الاصدارات السابقة وتتمنى للدكتور دوام النجاح والتمييز