العلامة د.سليم علوان ”الدِّيْنُ النَّصِيْحَة “
العرب نيوز ( سدني – استراليا ) خطبة امين عام دار الفتوى في استراليا العلامة د. سليم علوان” الدِّيْنُ النَّصِيْحَة “ الحمدُ للهِ ذي الجَلالِ والإكرامِ، الذِي أَعزَّنا بالإسلامِ وأكرمَنا بالإيمانِ وَنوَّرَ قلوبَنا بالقرءانِ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِ ولدِ عدنانَ، سيدِنا محمدٍ أبِي القاسمِ الذِي علَا النجومَ والكواكبَ العِظَامَ، وعلَى ءَالِه وأصحابِه الكِرامِ بُدورِ التَّمامِ، ومَصابيحِ الظلامِ وشُموسِ دِينِ الإِسلامِ، الذينَ صدَقوا ما عاهَدُوا اللهَ عليهِ وكانُوا بعدَ نَبِيّهِمْ صلى الله عليه وسلم ورَضِيَ عنهم قُدْوَةً للأنامِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا مَثِيْلَ له ولا ضِدَّ ولا نِدَّ له، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه، اللهمَّ صلّ على سيِّدِنا محمدٍ وعلى سائرِ إخوانِه منَ النَّبِيّينَ والمرسلينَ وءالِ كُلٍّ وصحبِ كلٍّ وسلِّمَ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ فأوصيكم ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العَظيمِ فإِنَ خيرَ الزَّادِ التقوى، ومَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَأُحَذِّرُكُمْ مِنْ عِصْيانِه، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنِ اسْتَبْدَلَ بِالطَّاعَهِ المعصِيَةَ، وءاثَرَ الفَانِيَةَ علَى البَاقِيَةِ، يقولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في القرءانِ العَظِيمِ ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾.
اعلمُوا عبادَ اللهِ أنَّ للهِ تباركَ وتعالَى أَنْ يُقْسِمَ بِما شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ أَقْسَمَ في هذهِ السورةِ بِالعَصْرِ، ومعنَى العَصْرِ الدَّهْرُ، قالَهُ ابنُ عباسٍ، فاللهُ أَقسمَ أَنَّ كُلَّ إِنسانٍ خَاسِرٌ، وَاسْتَثْنَى الذِينَ ءامَنُوا وعمِلوا الصالحاتِ مِنْ أن يكونُوا مِنَ الخَاسِرينَ، وهذَا وَصْفُ عِبادِ اللهِ تعالَى الصالحينَ الذينَ عمِلُوا بوَصايَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأْتَمَرُوا بِأَوَامِره، فَتَعَلَّمُوا وعَمِلُوا وَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا وخُصوصًا السّابِقُونَ الأَولونَ مِنَ الصحابةِ الذينَ مَدَحَهُمُ اللهُ تباركَ وتعالَى فقالَ ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾
وقد أَعْلَمَنا اللهُ تبارك وتعالى أَنَّهُ راضٍ عنهُمْ، لأنهم صَدَّقُوا وَءامَنُوا وتَعلَّمُوا وعَمِلُوا وَانْتَصَحُوا، فَحَرِيٌّ بنَا أَيُّها الإخوةُ الكرامُ أن نَقْتَدِيَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ونقتديَ بصحابَتِه الكرامِ، الذينَ كانُوا يَنْصَحُ أحدُهُمُ الآخَرَ لوجهِ اللهِ، فيَنْصَحُ الأخُ أخاهُ، والصاحبُ صاحبَه، وكانَ الواحدُ منهم مِرْءَاةً لأخيهِ المسلمِ، يحبُ لهُ ما يحبُّ لِنَفْسِه، فإنْ رأى فيهِ عَيْبًا سارَعَ إلى تقديمِ النُّصحِ لهُ والْمَوْعِظَةِ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللهِ، وكانَ المنصوحُ منهُمْ بِالْمُقابِلِ لَا يَتَرَفَّعُ عن قَبولِ النصيحةِ لأنَّهُمْ كانوا يَعْلَمُونَ أنَّهُمْ إِنِ استَمَعُوا النَّصيحةَ وشَكَرُوا النَّاصِحَ وعَمِلُوا بِها كانَ انْتِفَاعُهُمْ بِذَلكَ عظيمًا، وقَدْ قالَ أَحدُ السلفِ إذَا رأيتَ مَنْ يَدُلُّكَ علَى عُيوبِكَ فَتَمَسَّكْ بِـأَذْيَالِهِ اهـ، وَرُوِيَ عن عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ رحمَ اللهُ امرَءًا أَهْدَى إلَيَّ عُيوبِي اهـ ولقد كانَ الصحابةُ الكرامُ إذا الْتَقَى الواحدُ منهم بِالآخَرِ يتصافَحانِ معَ طَلاقَةِ الوَجْهِ وَالابْتِسَامَةِ ويَقْرَؤُونَ سورةَ العَصْرِ لِمَا حَوَتْهُ هذهِ السورةُ مِنَ الْمَعَانِي العظيمةِ الجَليلةِ قالَ تعالَى ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ كانُوا يَتَواصَوْنَ بالعملِ الصالحِ وَيُذَكِّرونَ بعضَهم بطاعةِ اللهِ وبِالالتِزامِ بأوامِرِه وبالحقِ الذي جاءَ بهِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم رحمةً بِإِخْوَانِهم، وقد جاءَ في وَصْفِهم قولُ اللهِ تبارك وتعالَى فِي سورةِ الفَتْحِ ﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ وهذَا مَا عَلَّمَهُم إيّاهُ سَيِّدُ المرسلينَ محمدٌ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأَتَمُّ التَّسْلِيم.
إخوةَ الإيمانِ، لقَدْ كانَ لنَا في رسولِ اللهِ وصحابَتِه الكِرامِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فعلَيْنَا بالتَّناصُحِ والتَّواصِي بتَقوى اللهِ العَظيمِ، والعَمَلِ بأَوامِرِه وَاجْتِنَابِ ما حرّمَ، وقَبولِ النَّصيحَةِ، فقَدْ روَى مسلمٌ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ، قِيلَ لِمَنْ فقالَ: للهِ ولِكتابِه ولِرَسُولِه وَلأَئِمّةِ المسلمينَ وعامّتِهِم اهـ
وما أَجْمَلَ ما ذكرَهُ الحافظُ أبو عَمْرو بنُ الصلاحِ في النصيحةِ قالَ: النَّصِيْحَةُ كلِمةٌ جامِعَةٌ تَتَضَمَّنُ قِيَامَ الناصِحِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ بِوُجوهِ الخَيْرِ إِرَادَةً وَفِعْلًا، فالنصيحةُ للهِ تباركَ وتعالَى تَوْحِيدُهُ ووَصْفُهُ بِصِفَاتِ الكَمَالِ والجَلالِ اللائِقَةِ بهِ، وَتَنْزِيْهُهُ عَمّا يُضَادُّهَا ويُخالِفُها، وتَجَنُّبُ مَعَاصِيهِ، والقيامُ بِطَاعَتِهِ، ومَا يُحِبُّهُ بِوَصْفِ الإِخلاصِ، وَالحُبُّ فيهِ والبُغْضُ فيهِ، والدعاءُ إلَى ذلكَ والحثُّ عليهِ.
والنصيحةُ لكتابِه الإيمانُ بهِ وتعظيمُه وتَنْزِيُهُه وتلاوَتُهُ حَقَّ تلاوَتِه، والوُقوفُ معَ أوامِرِه ونواهِيهِ، وتَفَهُّمُ عُلومِه وَأَمثَالِه، وتَدَبُّرُ ءاياتِه والدُّعاءُ إليهِ، وَذَبُّ تحريفِ الغَالِينَ وَطَعْنِ الْمُلْحِدِينَ عنهُ.
والنصيحةُ لرسولِه صلى الله عليه وسلم قريبٌ من ذلكَ بالإيمانِ بهِ وبما جاءَ بهِ وتَوْقِيرُه وتَبْجِيلُه والتَّمَسُّكُ بطاعَتِهِ وإحياءُ سُنَّتِهِ ونشرُها ومُعَاداةُ مَنْ عَادَاهُ وعادَاها، وَمُوالاةُ مَنْ وَالاهُ وَوَالاهَا، والتَّخَلُّقُ بأَخْلَاقِه والتَّأدُّبُ بآدَابِه وَمَحَبَّةُ ءالِه وصَحابَتِه ونحوُ ذلك.
والنصيحةُ لِأَئِمَّةِ المسلمينَ أي لِخُلَفَائِهِم وقادتِهِمْ، معاوَنَتُهُم على الحقِ وطاعتُهم فيه وتنبيهُهُمْ وتذكيرُهم في رِفْقٍ ولطفٍ، ومجانبةُ الخروجِ عليهم والدعاءُ لهم بالتوفيقِ وحثُّ الأغيارِ على ذلك.
والنصيحةُ لِعامّةِ المسلمينَ، وهُمْ هَا هُنَا مَنْ عَدَا أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصالِحِهم وتعليمُهُمْ أُمورَ دِينِهم ودُنْيَاهُمْ، وسَتْرُ عَوْرَاتِهم وَسَدُّ خَلّاتِهم ونُصْرَتُهم على أَعدائِهم والذبُّ عنهم ومُجانَبَةُ الغِشِّ والحسدِ لهمْ، وأن يُحِبَّ لهم ما يُحبُّ لِنَفْسِه، ويَكْرَهَ لهم مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِه ومَا شَابَهَ ذلكَ انتهَى كلامُه أَسْأَلُ اللهَ الكَرِيمَ أَنْ يُوَفّقَنَا لِذَلِك.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ النصيحةِ ما جاءَ عنِ الشافعيِ أنه ءاخَى مُحمدَ بنَ عبدِ الحَكَمِ المِصْرِيَّ وكانَ يَوَدُّهُ وَيُقَرِبُهُ ويُقْبِلُ عليهِ، وكانَ محمدٌ قَدْ لَزِمَ الشافعيَّ وتفقَّهَ بهِ وتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِه وكانَ كثيرَ البِرِّ والإِحسانِ إلى الشافعيِ وظنَّ الناسُ لِصِدْقِ مَوَدَّتِهما وأُخُوَّتِهِمَا أَنَّ الشافعيَّ يُفَوّضُ أَمْرَ حَلْقَتِهِ بعدَ وَفاتِه إليهِ في جامعِ عَمْرِو بنِ العَاصِ، فَقِيلَ للشّافِعِيِ رحمهُ اللهُ تعالى في عِلَّتِهِ التِي ماتَ فيها إِلَى مَنْ نَجْلِسُ بعدَكَ يا أبَا عبدِ اللهِ، وَمحمدُ بنُ عبدِ الحكمِ عندَ رأسِه لِيُشِيرَ إليهِ، فقالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ تعالَى عليكُمْ بِأَبِي يعقوبَ البُوَيْطِيّ وهو أكبَرُ أَصحابِ الشافعيِ لكَوْنِهِ أَفْضَلَ، فنَصَحَ الشافعيُّ رحمهُ الله تعالى للهِ عزَّ وجلَّ ولِلمسلمينَ وتَرَكَ الْمُداهَنَةَ، ولَمْ يُؤْثِرْ رِضَا الخَلْقِ على رِضَا اللهِ تعالَى بأَنْ وَجَّهَ الأَمْرَ إلَى البُوَيْطِيِ وءاثَرَه لأنهُ كانَ أَوْلَى وأَقْرَبَ إِلَى الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ غَالِبُ يَوْمِهِ الذّكرُ ودَرْسُ العِلْمِ وغَالِبُ لَيْلِهِ التَّهَجُّدُ والتلاوَةُ وكانَ الشافعيُّ يعتَمِدُهُ فِي الفُتْيَا وَيُحِيلُ عليهِ.
اللهمَّ باعد بينَنا وبينَ الْمُدَاهَنَةِ وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ النصيحةِ.
أقولُ قولي هذَا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم.