« تزكية السيد..» !
العرب نيوز (رؤوس – أقلام ) بقلم الكاتب علي القحيص – لقد صدمتُ كما صدم كثيرون من هول المشهد المؤلم في مقطع فيديو لإحدى الفضائيات العراقية وقد تضمّن حواراً مع مجموعة من العاطلين والعاطلات عن العمل من خريجي الجامعات العراقية، وهم على الرصيف في إحدى مدن العراق، حيث فوجئ المذيع عندما تقدَّمت فتاة محتشمة وبكل الوقار، وقالت له: أنا خريجة دكتوراه، عالمةُ ذرة وعاطلة عن العمل!
قالت ذلك وهي وتجهش بالبكاء مما حصل لها من ذل وإهانة وتهميش في بلدها الغني، بلد العلم والمعرفة والعلماء. ثم تسترسل وتقول: أنا لا أريد العمل كعالمة، فقط أريد عملاً في أي وظيفة، وعندما قدمتُ أوراقي من شهادات موثقة ومتميزة لأني الأولى على دفعتي، وتشهد بحوثي العلمية وأطروحتي وشهادة تخرجي في الفيزياء النووية، لمدير الجامعة قال لي: هاتي «تزكية من السيد» حتى أوظفك أو أنسِّبك للجامعة ربما بعد التزكية. قالت ذلك وهي تتلوى من هول المأساة، وتقول: أين السيد؟ ومن هو السيد؟ وما دخل السيد بالجامعة وبتفوقي العلمي وأنا أحمل دكتوره في الذرة وعالمة نووية؟!
انتهى حديث العالمة مع المذيع، لكن لم تنتهِ الصدمة بعد هذا المشهد المؤلم، بل تثور الأسئلة من قبيل: ما هذا الذي يحصل في بلاد الرشيد وطن الرافدين، بلاد النخيل والنهرين، بلاد حمورابي ونبوخذ نصر والمتنبي والجواهري، بلد العلم والعلماء الذي كانت فيه 57 جامعة حكومية وخرّج 3000 عالم في مختلف التخصصات من مختلف الدول الأجنبية العريقة المعروفة؟
هذا البلد الذي قضى على الأمية وحصل على 5 جوائز من «اليونسكو» في بداية الثمانينيات، وفي عام 1987 أطلق حملة القضاء الإجباري على الأمية، حيث شكّلت الدولة العراقية في ذلك الوقت فِرقاً للبحث عن أي شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، كي تجبره على التعلم الإلزامي بقوة صارمة حتى يتخلص العراق من الأمية تماماً! امتلك العراق أقدم الجامعات في العالم وأعرقها منذ عام 1280 للميلاد، كما امتلك نظاماً تعليمياً متقدماً في القرن العشرين، ظل يعد من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة كلها (من الروضة إلى الجامعة). ما هذا الذي يحصل لبلد عريق يطلق عليه العراق، كان يصنِّع ويصدِّر ويبني وينتج بفضل العلماء من أبنائه.. وتعلَّم في جامعاته الكثير من الطلبة العرب ممن أصبحوا علماء ومديرين ووزراء ورؤساء معروفين؟!
ما الذي جرى للعراق من دمار وخراب أعاده إلى عهود سحيقة، مما يوشك أن يمسح اسم بلاد الرافدين وتاريخها العريق وإنجازاتها العظيمة من ذاكرة العالم؟!
لقد تم هدم كثير من إنجازات العراق ومتاحفه الكبرى ومجسماته العالية ومعالم نهضته الكبيرة ونُصبه الضخمة.. وكل شيء جميل ومنير ومفيد ونافع فيه. بل الأدهى والأمر هو تعمد تخليف شعبه وتجهيله وإعادته إلى العصور الوسطى، كما يظهِر ذلك الفيديو الصادم الذي صُعِق منه كل مَن رأى وسمع كلام الطالبة العالمة المتفوقة، والتي كشفت المستور وهي تتحدث عن معاناة لا يقبلها أي إنسان عاقل وشريف يقدّر العلم والعلماء. لكن الموازين في العراق انقلبت رأساً على عقب، وباتت «تزكية السيد» أهم من ختم وتقييم التعليم العالي لحسم مصير طالبة موهوبة وعالمة درست علوم الفيزياء الذرية والنووية!