محمود درويش الحاضر بين صفورية وسيدني
العرب نيوز ( رؤوس – أقلام ) بقلم المحامي جواد بولس – لم أكن أشعر أنه، ومع كل اطلالة يوم جديد، كان ينحت حروف جداريته على مرايا أرواحنا، ويحرق كل صباح ريشة من جناحيه ليقترب من الحقيقة، “وليكمل رحلته الأولى إلى المعاني”. في مثل هذه الأيام، قبل ثلاثة عشر عامًا، تيقّن محمود درويش انه “يمتلك ما يكفي من الماضي وينقصه غد”، فقرر أن “يسلّ من عدمه وجوده”، وهو الذي قال للموت : “أيها الموت انتظرني خارج الأرض ، انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثًا عابرًا مع ما تبقى من حياتي قرب خيمتك”. لا أجمل من أن تقرأ محمود درويش في كل فصول السنة؛ فلأشعاره رائحة الأمل المتجدد، وطعم فريد لحنين شفيف، يصيبك بلذة آسرة وأنت على حافة الصهيل، فتشفى من غصتك وتدخل إلى “ليلك المشتهى”.
عاش محمود درويش حياته الشخصية وفق طقوس يومية صارمة حافظ عليها كي يحمي ” أرض قصيدته الخضراء”، لكنّه خرج قليلًا عن عاداته حين زاد في سنواته الأخيرة من زياراته الى الجليل، وكأنه كان يحاول أن يستعيد توازن مكوّني مسيرته الأبديين: البيت والطريق.
كنت محظوظًا لأنني رافقته في معظم تلك الزيارات الجليلية؛ لكنني نادم لأنني لم انتبه، ساعتها، إلى أنه كان يأخذني، بذكائه الصامت والجميل، إلى منابع روحه الأولى؛ فيمشي كغزال مرتبك على رصيف ميناء عكا ليضوّع مسكه الخالد على حجارة أسوارها الذهبية؛ ويقف كنسر ملحميّ على شرفة الكرمل ليضاحك المدى بعفوية عاشق سرمدي؛ ثم يسألني أين سنأكل اليوم؟ ومن سنزور ممن بقوا حرّاسًا للذاكرة وللملح ؟
أذكر يومًا وصلنا فيه الى الناصرة قبل ظهيرة تموزية هادئة. دخلنا الى قاعة مطعم “الجنينة” وجلسنا، وحيديْن في المكان، حول طاولة مستديرة كبيرة. انتبه، بعد دقائق قليلة، صاحب المطعم لوجودنا؛ ثم اكتشف فجأةً أننا لسنا مجرد زبونين جائعين، فأبدى علامات فرح مضطرب عندما تحقق أن ضيفه هو محمود درويش. اندفع نحو طاولتنا محييًا، ثم بدأ يحث عماله على تجهيز الطاولة، وأخذ يحرك يديه بعصبية واضحة، وفي نفس الوقت يمطر علينا عبارات الترحاب والتأهيل والسرور. نظرت نحو محمود، فكان لون وجهه كلون الحرج، أحمر؛ فرددت على مضيفنا وشكرته حاسمًا بأننا سنشرب عنده القهوة فقط، لأننا تناولنا وجبة الافطار مسبقًا والوقت ليس وقت غذاء. لم يقتنع صاحبنا في البداية، لكننا نجحنا، بعد مفاوضات عسيرة معه، على ارضائه بأن نشرب القهوة وأن نأكل معها، من صنع يديه، صحني كنافة نصراوية. سعد محمود حين شعر بشعبيته، بعد سنوات من الغياب، وبدت على وجهه علامات رضا وراحة.
ثم سألني كعادته وببراءة كنت أفهم كنهها: من تقترح أن نزور اليوم في الناصرة ؟ لم يكن سؤاله غريبًا عني، ولم أجد صعوبة في إقناعه بأول اسمين ذكرتهما؛ فقررنا أن نتصل بالشاعر طه محمد علي، ابو نزار ، واعلامه عن نيتنا بلقائه.
كان صوت أبو نزار في الهاتف صاخبًا كرياح “صفورية”، وعميقًا مثل حزنها ؛ فاخبرته أن محمودًا موجود في
الناصرة وانه ينوي زيارته، اذا كان ذلك ممكنًا بالنسبة له. سمعت صمته يتنفس بثقل ، ثم، بعد هنيهة، انهال على أذني سائلًا: اين أنتما الآن ؟ فأخبرته “اننا عند ابو ماهر بالجنينة”، لكنه أعاد السؤال عدة مرات، حتى صرخ، بعدها، مناديًا على ابنه، نزار، وطلب منه الذهاب فورًا الى المطعم كي يصطحبنا الى بيتهم في حي بير الأمير . حاولت أن أفهمه أننا سنأتي لوحدنا، لكنه لم يسمعني وأغلق الهاتف. لم ننتظر. تحركنا باتجاه الحي وسألنا عن بيت ابي نزار، فوصلنا ساحته الرحبة وصعدنا درجًا في نهايته باب مفتوح على مصراعيه، فدخلنا وأنا أنادي من الخارج على أبي نزار.
كان يجلس الى طاولة صغيرة في المطبخ، وكانت أم نزار بجانبه. كان ظهره لنا وكنبة عسلية تفصل بين حيز المطبخ ومقعد الضيوف. انتبه بعد لحظة لوجودنا داخل البيت، فانتصب دفعة واحدة حتى خلته جذع سنديانة يمشي، ثم رفع يديه الطويلتين وهو يندفع باتجاهنا فارتطمت ساقاه بظهر الكنبة، لكنه لم يتوقف، فتحايل عليها حتى رمى جسمه على محمود فاحتضنه كلّه فغاب في صدره. كانت أم نزار تلحق زوجها وبيدها منشفة وترجوه أن يمسح فمه من الزيت قبل أن يدهن رقبة محمود به. لم يسمعها ولم يرتبك، وضحك محمود والزيت صار بينهما علامة هذه الزيارة الفارقة.
امتلأ البيت سعادة. كنت أجلس بجانب محمود وأشعر بهدوئه ، وكان الفرح يغرق جسد أبي نزار الضخم، فيبدو أحيانًا كطفل تملؤه المفاجأة عبثًا؛ وكان يحاول أن يشكر محمود على الزيارة، لكن محمود كان في كل مرة يتدخل وبدماثة كان يحدثه عن بعض قصائده التي يتابعها باهتمام. تحدثا حول الشعر والشعراء، وعن الماضي وعن الوجع، ولكنهما لم يأتيا على ذكر المستقبل سوى مرّة واحدة سمعت فيها محمودًا يقول: “لا شيء يبقى على حاله، للولادة وقت، وللموت وقت، وللصمت وقت.. كل نهر سيشربه البحر، والبحر ليس بملآن ، كل حي يسير الى الموت، والموت ليس بملآن” . لم أشعر بمرور الوقت إلا عندما استئذنّا أصحاب البيت بمغادرتهم، فوقف ابو نزار ورفع رأسه ويديه نحو السماء وقال: “يا ربي، تستطيع أن تأخذ وديعتي بعد هذه الزيارة، فأنا لا أريد أكثر من هذا العالم بعد اليوم”. شعرت ببعض الحزن حين نظرت نحو يد محمود اليمنى التي كانت تزيل بلطافة عن خده قطرات من عسل الوفاء. ودّعا بعضهما من دون بكاء ومحمود يقول ويده ملقاة على كتف الزمن : “عش ليومك لا لحبك. كل شيء زائل، فاحذر غدًا، وعش الحياة الآن في امراة تحبك..” . وصلنا حيفا وقبل نزولنا من السيارة نظر اليّ وسألني، بدعابة، هل ما زال زيت ابو نزار على رقبتي ؟
لم أسال محمود لماذا قرر أن يزور الاماكن والاصدقاء الذين زرناهم معًا، وقد أجّلت هذه الاسئلة الى ما بعد عودته من اجراء العملية في امريكا.
رحل في هيوستن ولم يعد هنالك حاجة لتلك الأجوبة فقد كانت أمامنا طيلة تلك السنوات حين كان يتزود، من خلال زيارته، بماضيه ويكمله كما خطط وأعدّ حتى “امتلأ بكل أسباب الرحيل”، وصار، كما أعلن، ما يريد: خالدًا أبدا وحاضرًا دومًا في الغياب.
أفقت قبل أيام قليلة على غصة ورسالة موجعة من صديقنا المشترك مرسيل خليفة الذي يعيش منذ أكثر من عام ونصف في استراليا في شبه منفى قسري وذلك بعد أن تحوّل لبنانه إلى مبيد للأماني ومزارع للقلق، وفيها يخبرني أنه: “في هذا الحجر المنزلي الصارخ أنجزت حتى الساعة المسوّدة الاولى للكتابة الموسيقية والغنائية للجدارية وسيكون صوت درويش في قلب العمل.. بدأت بالتصحيح والنقل واعادة التأليف ويلزمني أشهر أخرى لانجاز ذلك. أحببت أن أخبرك بمخاض الكتابة الموسيقية للجدارية لتستمع الى دقات قلب الحنين. تخيّل يا صديقي ملامح الجدارية مع ١٥٠ موسيقيا وكورس ومنشدين. كان هذا العمل ثأري من الوقت والمسافة والتلاشي وسُعَف انتصارنا على العبث والصمت .. لقاء الشعر مع الموسيقى هو استعادة الحوار بين ” الأنا” و” أنا” الآخر – للجدارية- وفي السير على البحيرة وعلى دروب القوافل.. هو صدى هوائيات حواراتها وحميم بوح اناثها.. هو رجع نحاسيات مشاهد التاريخ من الاغريق الى الفراعنة الى خود جيوش الملاحم.. والموت الآلة الوحيدة الحاضرة ولو على حدود الصمت تتهكم كلما تردّد هديل انثى اليمام .. اغمض عيني فيصبح انكيدو آلة تنساب ما بين نهرين، وابن السجان وطيف أبيه آلتين على اللحن المنفرد مع صوت أعلى بين الآلتين. خوفي من صهيل الحصان الذي طارت جذوته على مقربة من الميناء، وانكساري لدى نمو الزهر الفوضوي اللون الى آخر الرؤيا.. . صمت ١٥٠ آلة وصوت محمود يرافق صمتي العميق كلما اشرفت على حافة الحفرة في نهاية الاعتراف. “انا لست لي”، أنا عود وحيد على كرسي بعدما غادر الموسيقيون المكان واسدلت الستارة على المسرح”.
فرحت لما جاء في الرسالة، وآلمني وجع صديقي، وتمنيت لو كنت هناك كي أبدد وحدته وازيح العتمة عن ليل ذلك الغريب.
انه آب الغصّات .. فكم كنا غفاة يا محمودنا وكم كنت واضحًا أيّها المعلم …